جوهر الدين بين الحقيقة الإلهية والتجربة الإنسانية

14 فبراير 2025
+ الخط -

في أعماق الإنسان، حيث تتشابك الأسئلة الوجودية مع نبض الحياة اليومية، يتردّد سؤال لا يخفت: ما الغاية من الدين؟ إنّه ليس سؤالاً حديثاً، بل هو همس قديم صاحَب الإنسان منذ لحظة وعيه الأولى، منذ تلك اللحظة التي وقف فيها أمام البحر متأملاً امتداده اللامتناهي، أو رفع بصره نحو السماء متسائلاً عن السرّ الذي يختبئ وراءها. لم يكن الإنسان يبحث عن تفسير سطحي للأشياء، بل كان يبحث عن معنى، عن نسقٍ خفي يربط بين حياته وبين ذلك اللغز الأكبر الذي يسكن الكون.

الدين لم يكن يوماً مجرّد مجموعة من الطقوس أو قواعد أخلاقية تحدّد الصواب والخطأ. بل كان في جوهره لغة خفيّة تنظّم العلاقة بين الإنسان والمطلق، بين الفرد والجماعة، وبين الذات والقدر. هو دعوة تتجاوز الظواهر إلى جوهر الأشياء، محاولة لفهم الوجود في أبعاده الأعمق. بيد أنّ الدين ليس نصاً مغلقاً ثابتاً، بل هو تجربة حيّة تتلوّن بتجارب من يقرؤه، ويُعيد تشكيل ذاته مع مرور الزمن ليعكس حاجات البشر بقدر ما يعكس الحقيقة الإلهية.

ورغم أنّ الوحي الإلهي جاء ليُشع في أرواح البشر ويُرشدهم إلى الطريق الصحيح، إلا أن النصوص، مهما بلغت صفاءها الأوّل، لا تبقى نقيّة تماماً حين تعبر من جيل إلى جيل، ومن عقلٍ إلى آخر. فما كان ذات يوم نوراً يُضيء الطريق، يصبح أحياناً سلاسل تُقيّد العقل وتحدّ من حركة الفكر. الفهم الإنساني، المحكوم بظروف التاريخ والثقافة والبيئة الاجتماعية، يُعيد تشكيل الرسالة الإلهية بما يتوافق مع رؤيته، حتى يصبح من الصعب التمييز بين الجوهر الإلهي والتفسير البشري الذي يمرّ بتجارب مجتمعية محدّدة. وتتحوّل أحياناً تلك النصوص التي كانت تجسّد الحقيقة الإلهية إلى تأويلاتٍ قد تكون مشوّهة، تُوظّف لخدمة أغراض بشرية بعيدة عن المعنى الأصلي.

وهنا يأتي دور الشك، الذي لا يجب أن يُنظر إليه بوصفه عدواً للإيمان، بل أداة تنقيح فكرية ضرورية. الشك الذي لا ينفي الإيمان بل يعزّز من قوّته، لا يعدو أن يكون الطريق الذي يفرز الحقائق من التشوّهات. فالشك هو ذلك الذي يساعد الإنسان على الفصل بين الجوهر والشكل، ويُعيد للإنسان حريته في التأمّل، بعيداً عن القيود التي قد تفرضها التأويلات البشرية. الشك ليس هدماً للإيمان، بل هو خطوة مهمّة نحو الفهم الحقيقي، فالإيمان الذي لا يُختبر، الذي لا يمرّ بمرحلة التساؤل والمراجعة، يظل هشاً، مجرّد تقليد أعمى يُتبع بلا وعي، لا اختياراً ينبع من الداخل.

الدين طريق مليء بالتساؤلات التي تفتح أبواباً جديدة من المعرفة والحكمة

من خلال هذه التجربة النقدية والاختبارية يمكن أن يصل الإنسان إلى دين عميق ينبع من تأمّلاته الخاصة ويكون مستنيراً بعقله. الدين، في حقيقته الأعمق، ليس حدوداً تُفرض على العقل أو القلب، بل هو نداء داخلي يسمعه من يتأمّل بصدق، ويتبع مساره الشخصي بحثاً عن النور. فكلُّ دين حقيقي يحمل في طياته دعوة لاستكشاف الذات، لإعادة التفكير في قيم الحياة والموت، والخير والشر، والحق والباطل، عبر مرآة العقل والتجربة الإنسانية.

الإيمان الذي لا يمرّ بتحدي الشك، والذي يُبنى على أساس تقاليد غير مفحوصة، قد لا يحقّق ذلك التنوير الداخلي الذي يبحث عنه الإنسان في دينه. فالحقيقة التي يحملها الدين ليست أمراً ثابتاً، بل هي أشبه باللؤلؤة التي تتألّق في عمق المحيط، وتحتاج إلى غوّاص شجاع للغوص في أعماق البحر لاكتشافها. الشك، إذا كان بمثابة غواصة العقل، فهو يُتيح للإنسان الفرصة لاكتشاف هذه اللؤلؤة المخفية وسط الرمال المتحرّكة للأفكار البشرية.

الدين في جوهره هو دعوة للحرية. لكنه ليس الحرية في مفهومها السطحي الذي يتجسّد في التحرّر من القيود، بل هو حرية أعمق، حرية في فحص المسلّمات، وحرية في بناء فهم شخصي قائم على التأمل العقلاني. هو دعوة للإنسان ليختبر إيمانه، ليعيش الحقيقة كما يراها بعد مرورها عبر عدسة عقله وإحساسه الداخلي. في النهاية، الدين ليس مجرّد طقوس وأوامر تُتبع، بل هو رحلة ذاتية تبدأ من الشك وتنتهي باليقين، رحلة تطلب منك أن تبحث، أن تتساءل، وأن تتأمّل بعينٍ صافية حتى تجد إجابة تسكن القلب وتطمئن الروح.

الدين هو نداء إلى العودة إلى الذات، لا باعتبارها وحدة منعزلة عن العالم، بل كجزء مُتشابك مع الكون، يبحث عن وجوده في ضوء الحقيقة الإلهية التي تلقيه في الطريق. الدين ليس قيوداً بل هو أفق واسع يسير فيه الإنسان على طريق غير مفروش باليقين المطلق، بل طريق مليء بالتساؤلات التي تفتح أمامه أبواباً جديدة من المعرفة والحكمة.

كاتب عراقي
منتظر عبد الرحيم
كاتب عراقي ولد في بغداد نُشرت له عدة مقالات وقصص في مجلات عربية وعراقية، صدرت لهُ أول مجموعة قصصية بعنوان "أرماء" سنة 2023.