جولة في مشوار الأستاذ علي عبد الخالق (1)

جولة في مشوار الأستاذ علي عبد الخالق (1)

19 مايو 2021
+ الخط -

ربما لن تجد دليلاً على فساد واختلال المعايير في الأوساط النقدية والصحفية المهتمة بالسينما المصرية، أبرز من طريقة تعامل هذه الأوساط لسنوات طويلة مع المخرج الكبير علي عبد الخالق الذي بدأ مشواره مع الإخراج في سنة 1972 بفيلم في غاية الأهمية والجمال هو فيلم (أغنية على الممر)، وكان وقتها في الثامنة والعشرين من عمره، ومع أن الفيلم حظي بتقدير نقدي كبير، إلا أن مجمل الموقف النقدي والصحفي من علي عبد الخالق تغير حين اتجه إلى إخراج أفلام تحرص على التواصل مع الجمهور، ومع أنه حقق في مشواره السينمائي العديد من الأفلام المتنوعة التي جمعت بين الجودة الفنية والنجاح الجماهيري الكبير، وشهد عقد الثمانينات ذروة تألقه بأفلام من عينة ( العار ـ السادة المرتشون ـ الكيف ـ جري الوحوش ـ إعدام ميت ـ شادر السمك ـ مدافن مفروشة للإيجار ـ الوحل ـ أربعة في مهمة رسمية ـ بئر الخيانة ـ الحقونا ـ البيضة والحجر) إلا إنه لم يحظ لعدة عقود بالاهتمام النقدي والصحفي والإعلامي الذي يليق بهذا الإنجاز، وهو ما أحدث مرارة بينه وبين النقاد والصحافة، اشتدت في أواخر الثمانينات حين تراجع نجاح بعض أفلامه، وزادت حملات النقاد والصحفيين عليها.

لا زلت أذكر كيف كان بعض النقاد الكبار يفسر عدم الاهتمام بتجربة علي عبد الخالق بأنه "مخرج تجاري" لا يستحق الاهتمام النقدي الذي يجب أن يوجه إلى "مخرجين فنيين" لا يضعون فكرة الجماهيرية في المقام الأول، ولذلك نال بعض المخرجين المرضي عنهم نقدياً والذين صنعوا أفلاماً متوسطة القيمة وأحياناً مفككة ومهترئة اهتماماً أكبر من الذي حصل عليه علي عبد الخالق الذي أنصفه الجمهور، ليس فقط حين عرض أفلامه في دور العرض، بل وحين تم عرضها في التلفزيونات بعد ذلك، وحين وجدت طريقها إلى اليوتيوب وتعرف عليها جمهور شاب لم يعاصر سنوات تألقه، وأصبحت بعض هذه الأفلام أيقونات فنية يتعلم منها صناع الأفلام الشباب ويستلهمونها خلال بحثهم عن طريقة للتواصل مع الجمهور دون أن يفقدوا اهتمامهم بالجودة الفنية لأعمالهم.

في هذا الحوار ستقرأ إجابات الأستاذ علي عبد الخالق على أسئلتي التي حملتها إليه الزميلة والصديقة شيماء خليل، والتي حاولت فيها أن أقوم بجولة في مشواره السينمائي المتنوع والمهم، وأظن أن إجاباته ألقت الضوء على الكثير من جوانب صناعة السينما، والمعاناة التي يلقاها أي صانع سينما يحاول العمل طبقاً لقواعد السوق السينمائي دون أن يفقد استقلاليته الفنية واحترامه لنفسه، وهي المعاناة التي يقللها وجود علاقة بينه وبين الجمهور الذي يدعم أفلامه ويجعل كلمته مسموعة لدى المنتجين والنجوم، لتعود هذه المعاناة حين يفقد صانع السينما علاقته بالجمهور لسبب أو لآخر، فيدخل في تجارب متعثرة ثم يضطر لإعلان اعتزال العمل في السينما التي لم يكن يتصور الحياة بدونها.

الحقيقة أفضل حاجة حصلت في الدراسة في المعهد إنها كانت بتدينا مفاتيح للبحث في الكتب، وكانت الامتحانات في آخر السنة مش مجرد سين وجيم تقليدية

ـ أستاذ علي، خلينا نبدأ الحكاية من الأول، كانت امتى اللحظة اللي تطور فيها عشقك للسينما إلى إحساس إنك لازم تكون جزء من صناعة السينما، مش بس تظل كمتفرج محب؟

الحقيقة إن اللي خلاني أحب الشغل في السينما وأفكر أشتغل كمخرج كان الأستاذ عز الدين ذو الفقار، يعني عكس أبناء جيلي اللي كانوا معجبين بنجوم وممثلين، أنا كنت معجب بأفلام عز الدين ذو الفقار، كنت باتفرج على أفلامه بشغف واستمتاع، يمكن بعض الأفلام دي شفتها من 18 إلى 19 مرة من غير مبالغة، كل ده وأنا طالب في المرحلة الإعدادية، الأول كان يعجبني الفيلم وبعدين ألاقي اسم المخرج ده متكرر في الأفلام اللي باحبها، فبدأت أسأل نفسي أسئلة عن إيه حكاية المخرج وإيه قدراته دي بقى؟ إزاي بيقدر يخلي الناس تضحك وتعيط، وابتديت أقرا المتاح باللغة العربية وكان قليل للأسف وأغلبه كتب مترجمة فاكر منها حاجات للأستاذ أحمد الحضري، واللي قريته شدني أكتر لإني أبقى مخرج سينمائي، ولما تخرجت من الثانوية العامة كان مجموعي يدخلني كلية الآداب، وطبعا أهلي كانوا عايزين يدخلوني ضابط شرطة عشان أطلع زي والدي ضابط شرطة، لكن أنا رفضت تماما، ورفضت حتى أقدم في مكتب التنسيق وأصرّيت إني أقدِّم في معهد السينما فقط لا غير، وكانوا بيقولوا لي طيب افرض إنك ما اتقبلتش في معهد السينما، كنت أقولهم خلاص هاقدم السنة اللي بعدها واللي بعدها لغاية ما أتقبل، كان بالنسبة لي دخول معهد السينما قرار نهائي والفضل في ده لعز الدين ذو الفقار وأفلامه.

ـ لكن قبل كده كان في نشاط مدرسي ليه علاقة بالفن زي المسرح المدرسي؟

لأ، التحاقي بمعهد السينما كان أول حاجة ليها علاقة بالفن.

ـ ذكرياتك عن معهد السينما واللي أضافه ليك كمحب للسينما؟

أنا كنت في الدفعة الرابعة في المعهد اللي اتخرجت سنة 1966، وطبعا استفدت من المعهد كتير وفي أساتذة أضافوا لي كتير، يعني كان بيدرس لي دراما مثلا الدكتور رشاد رشدي، كان بيدرس لنا برضه أسماء كبيرة زي محمود أمين العالم والدكتور لويس عوض، وكان في سنة تالتة ورابعة بيدرسنا مادة السيناريو دكتور اسمه هاتش، كان أمريكاني، والحقيقة ساعدني أنا وزملائي إننا نبدأ نهتم باللغة الإنجليزية لإنه ما كانش بيتكلم إلا إنجليزي، وكل أسبوع كان يدينا تمرين، نكتب مشهد بالإنجليزي وكل الكتب اللي بيطلب مننا نقراها إنجليزي، ففادنا أولاً في اللغة، غير إنه كان مدرس جيد فعلاً.

الحقيقة أفضل حاجة حصلت في الدراسة في المعهد إنها كانت بتدينا مفاتيح للبحث في الكتب، وكانت الامتحانات في آخر السنة مش مجرد سين وجيم تقليدية، لكن كانت بتدي كل طالب فرصة يكتب المعلومات اللي عرفها من خلال قراءاته ومشاهداته، ويقول رأيه ويتكلم عن النظريات والآراء المختلفة، مش مجرد منهج وخلاص نجاوب فيه كطلبة زي بعض، وبالنسبة لنا ما كانتش المشكلة هي النجاح والسقوط في الامتحانات، ولكن الحصول على التقدير العالي في النهاية، هو ده كان الصراع بيننا كطلبة، مين هيبقى أول ومين هيبقى تاني، والحصول على التقدير كان شرطه الأساسي هو إنك تتثقف، والأساتذة كلها كانت بتساعدنا على إننا نبحث ونقرا، وكل واحد حر في استنتاجاته، وده خلانا نقرا كويس ونستفيد جدا خصوصا من الكتب الإنجليزية لإن الكتب المتاحة بالعربي ما كانتش كتير وقتها. غير الأفلام المهمة اللي كنا بنشوفها، طبعا الإنترنت دلوقتي بيساعدك تلاقي أفلام مش متاحة بسهولة في مصر، لكن وقتها الأفلام اللي كانت بتعرض في مصر كان مستواها جيد لإن الإقبال على السينما الأمريكية كان إقبال كبير وكانت الأفلام الأمريكية بتعمل إيرادات كبيرة، غير إننا كنا بنشوف أفلام أوروبية مهمة في المراكز السينمائية المختلفة.

ـ إيه أول شغلانة اشتغلتها في السينما؟

في الوقت ده كان في أفلام إنتاج مشترك بيننا وبين السينما الأمريكية والإيطالية، وكان من حسن حظي إن أول فيلم أشتغل فيه سنة 1966 بعد التخرج على طول كان فيلم اسمه (أبو الهول الزجاجي) بطولة النجمة الكبيرة أنيتا أكبرج والنجم الكبير روبرت تايلور، صحيح كانوا الاتنين وقتها في مرحلة بداية خفوت النجومية لإنهم كبروا في السن، لكن برضه كان ليهم وهجهم واسمهم الكبير، كان المفروض إن الفيلم يبقى فيه مخرج أجنبي مع مخرج مصري، والمخرج المصري كان الأستاذ الكبير كمال الشيخ، أما المخرج الأجنبي كان إيطالي اسمه سكاتيني على ما أتذكر، وكان أول مرة يخرج فيلم روائي طويل، بس كانوا جايبين له أحسن مساعد مخرج في أمريكا، ومن مصر اشتغلنا مجموعة من المساعدين، كان المساعد الأول مصطفى جمال الدين والمساعد الثاني أحمد فؤاد وأنا المساعد الثالث، والحقيقة استفدت جدا من التجربة بإني أشوف طريقة شغل الأجانب في السينما، يعني الفيلم كان فيه مجاميع كتير، وشفت إزاي بيحركوا المجاميع بحرفية، وكانت مهمتي كواحد من المساعدين المصريين إني أشارك في تحريك المجاميع، يعني الكاميرا كانت بتبقى بعيدة، وكل واحد من المساعدين بيبقى لابس لابس المجاميع عشان نبدو إننا منهم، ومع حركة الكاميرا نديهم الإشارات اللازمة، يتحركوا ناحية اليمين وناحية الشمال طبقاً للميزانسين أو التصور الإخراجي اللي معمول سلفاً، والحقيقة استفدت جدا من التجربة.

بعدها اشتغلت فيلم تاني استفدت منه جداً كان من إخراج ممدوح شكري، وكنت أنا الاسكريبت أو المساعد التاني، وكانت نبيهة لطفي رحمة الله عليها هي المساعد الأول، والحقيقة كنا بنتعامل كأصدقاء، ممدوح كان بيعاملنا كزملاء مش كمساعدين، رحمة الله عليه كان منتهى الذوق والاحترام، وأنا استفدت منه جداً لإنه كان بيجيد عمل تكوين حلو في الكادرات، وكان بيعمل بروفات بنفسه مش من خلال المساعدين زي ما البعض كان بيعمل، وكان يركب على الكاميرا لما يتحرك الكرين أو الشاريوه، طبعا كان بيوصف اللقطة اللي هتتاخد لمدير التصوير، لكن قبلها في البروفات يركب على الكاميرا ويحرك الممثل بعينه بره وجوه الكادر، لغاية ما يستقر على الشكل الأنسب اللي المفروض يظهر بيه الكادر والأماكن الأنسب للممثلين، وبعد كده يبقى آمن ومطمئن للنتيجة، والحكاية دي أنا تعلمتها من ممدوح شكري وبقيت باعملها في كل أفلامي.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.