"جولة" المعاناة في "ملاهي" الوزارات اللبنانية
هلا نهاد نصرالدين

بعد انتخاب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، وإنهاء فراغٍ دام أكثر من سنتين، وتكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة، تنفّست اللبنانيات واللبنانيون الصعداء وتزايدت آمالهم بغدٍ أفضل. لكن، هل يمكن لهذا التفاؤل أن ينعكس على واقع الوزارات اللبنانية التي لطالما كانت مركزًا للفوضى؟
رغم استمرار الفوضى التنظيمية، لا شكّ أنّ هناك تحوّلًا إيجابيًا في بعض مؤسسات الدولة. ففي زيارتي الأخيرة لإحدى الوزارات، لاحظتُ تغيّرًا طفيفًا في سلوك الموظفين، حيث بدا بعضهم مبتسمًا ومتعاونًا، بعدما اعتدت لسنوات على وجوههم المتجهّمة وبرودهم ولامبالاتهم.
رحلة شاقة في متاهة وزارة التربية
قبل أشهر، اضطررت لزيارة وزارة التربية لتصديق إفادة جامعية لشقيقي الأصغر. كنت على دراية بأنّ الوضع سيئ للغاية، لكن ما رأيته تجاوز توقعاتي. مئات الأشخاص يتنقلون بين الطوابق في حالةٍ من التيه والغضب، وسط فوضى عارمة وغياب أيّ تنظيم.
استغرقت العملية أكثر من ثلاث ساعات من التنقّل بين طوابير طويلة لا تنتهي. تُعطى المعلومات "بالتقسيط" أي بشكل مجتزأ وغير واضح، ما يجعل التجربة اختبارًا حقيقيًا للصبر. هذه الوزارة، المسؤولة عن التعليم في لبنان، تعكس بوضوح ما آلت إليه الظروف التعليمية في البلاد، حيث يبدو الأفق مظلمًا والطريق نحو النهوض طويلًا وشاقًا.
كان الحصول على أيّ من المصادقات أو الطوابع المطلوبة يتطلّب الوقوف في طوابير طويلة. لتوفير الوقت وتسريع العملية، يلجأ المواطنون إلى حيلةٍ ذكية: يذهب اثنان أو ثلاثة أشخاص معًا إلى الوزارة، بحيث يقف كلّ واحد منهم في طابور مختلف لحجز الدور. وعندما ينهي أحدهم معاملته، يسلّمها للآخر الذي ينتظر في الطابور التالي.
الوزارة المسؤولة عن التعليم تبدو وكأنها "شبه مزرعة" تفتقر إلى الحد الأدنى من التنظيم والتربية
في قسم المصادقات الجامعية تحديدًا، يبدو الانتظار وكأنه عقوبة جماعية. نقف لساعات طويلة عند مدخل الوزارة حيث يمرّ من بيننا أشخاص، أي كلّ من يريد الدخول أو الخروج من "جحيم الوزارة". ومع ذلك، لا أحد يعلم إن كان هذا الانتظار سيؤدي إلى نتيجة مثمرة. غالبًا ما يُفاجأ المواطن عند وصوله للخطّ النهائي بعائق غير متوقع أو طلب إضافي لم يُبلّغ به مسبقًا، ليخرج من "السباق" عائدًا إلى نقطة الصفر منهكًا ومكسور الخاطر. في هذا القسم تحديدًا، كان يعمل موظفان فقط، يصرخان ويناديان من الأمام، بينما يقف المواطنون في الخلف عاجزين عن سماعهما. وكما يقول المثل اللبناني: "يا غافل إلك الله".
محسوبيات وسط الفوضى
أثناء الانتظار الطويل، شهدت موقفًا يجسّد المحسوبيات والتمييز الصارخ. تقدّم عسكري برفقة رجل قصير القامة يرتدي قميصًا أحمر، متجاوزين الطابور بأكمله. صرخ العسكري للموظفين قائلاً: "السيد حسن يطلب منكما استلام أوراقه"، وبالفعل تمكّن الرجل من إنهاء معاملته خلال دقيقة واحدة فقط دون أن ينتظر، بينما كنا نحن ننتظر لساعاتٍ طويلة.

نظرنا نحن المنتظرين بعضنا لبعض نتساءل عن ردّة فعلنا المحتملة، لكن سرعان ما أدركنا عبثية النقاش في مثل هذه الحالات، فهذه المشاهد أصبحت جزءًا من "المهزلة" اليومية. لكن ما رأي وزير التربية والتعليم العالي في لبنان الدكتور عباس الحلبي في هذا الواقع؟ صحيح أن هذه الفوضى لم تبدأ في عهده، لكنها وصلت إلى حدّ يجعل الوزارة المسؤولة عن التعليم تبدو وكأنها "شبه مزرعة" تفتقر إلى الحدّ الأدنى من التنظيم والتربية.
إلى وزارة المالية!
هذا مجرّد غيض من فيض من "المغامرة الممتعة" في وزارة التربية، لكن "الملاهي" الوزارية لا تنتهي عندها. تجربتي مع وزارة المالية لم تكن أفضل. بعد زيارات متعدّدة وتسليم جميع الأوراق المطلوبة، فوجئت برفض الموظّفة استلام ملفي لثلاثة أسباب غير مقنعة:
(1): "واقف السيستم"، العبارة الأكثر شيوعًا منذ بدأت معاملاتي هناك عام 2016.
(2): "في مظاهرات وإضراب"، رغم أن المظاهرة لم تكن مرتبطة بالوزارة.
(3): "سكّرنا معاملات سنة 2024"، رغم أننا كنا حينها في بداية شهر أيلول/ سبتمبر!
مع محاولتي للتفاوض، تجاهلتني الموظفة تمامًا وبدأت مكالمة هاتفية شخصية طويلة بينما كنت أقف منتظرة بلا جدوى. غادرت الوزارة بعد أن فقدت الأمل.
أما المشهد الأكثر "سخرية" فهو مشهد الملفات المكدّسة على الأرض في الطابق السفلي من وزارة المالية. أيّها اللبنانيون، بياناتكم المالية موجودة هنا، بين بلوك B وC من الوزارة! لكن لا تقلقوا، فبياناتكم "بأمان"… في متناول أيدينا جميعًا!

المضحك والمؤسف في آن هو أننا اعتدنا هذا الوضع المزري حتى أصبحنا نمزح بشأنه. كلما انتقدت أو أظهرت استياءً يأتي الرد بعبارات ساخرة مثل: "بدك تروحي وتجي كل يوم لتخلصي معاملتك" أو "بدّك تفضّي نهارك كله"، "كنت عارف ما رح تطلعي قبل كذا ساعة"، وغيرها من العبارات الساخرة.
في زيارتي الأخيرة لوزارة المالية منذ يومين، كان مشهد الملفات كما هو، لكن المفاجأة كانت في الموظّفة نفسها التي رفضت استلام ملفي سابقًا؛ إذ كانت متعاونة جدًا ومبتسمة؛ استلموا الملف أخيرًا! رغم سعادتي بالانتهاء من هذا الكابوس، يبقى سؤال واحد يشغلني: من هو "الأستاذ حسن" الذي سمح لمواطن بإنهاء معاملته في وزارة التربية في دقيقة واحدة بينما نقف نحن لساعات؟
هل سيتمكّن العهد الجديد والحكومة الجديدة من ردع "الأستاذ حسن"، والقضاء على المحسوبيات وإعادة التنظيم والفعالية إلى مؤسسات الدولة؟

