جريمة التحريض على الأمل بين غزّة وسورية

06 ديسمبر 2024
+ الخط -

بعد أسبوع من عملية طوفان الأقصى نشر الصحافي الأميركي، والمعروف بصهيونيته، توماس فريدمان، مقالًا في مجلة نيويورك تايمز، يذكّر فيها القادة الصهاينة بمصطلحه الشهير "قواعد حماة" الذي صاغه عام 1989 عندما كان مراسلًا صحافيًّا في بيروت، يرصد الأوضاع من هناك، وكان قد غطى قبل ذلك مجزرة "صبرا وشاتيلا" في لبنان. وفريدمان هذا كان يشدّ على أيدي الإسرائيليين لقمع الانتفاضة الفلسطينية في الضفة، بل اتخاذها ذريعة لاعتقال كلّ الذكور الفلسطينيين فوق 18 سنة واستعبادهم لبناء مستوطنات يهودية، وها هو الآن يحثهم على تطبيق "قواعد حماة" في غزّة.

لكن ما هي "قواعد حماة"؟

يذكر فريدمان في المقال الذي نشرته نيويورك تايمز في أغسطس/ آب 2011 أنّه عندما سمع عن التمرّد في مدينتي حمص وحماة ضدّ الحكومة السورية التي يقودها حافظ الأسد في سورية عام 1989 أراد السفر من بيروت إلى سورية ليغطي الأحداث، لكن لم يُسمح للصحافة حينها بتغطية المجزرة التي كانت تتم على قدمٍ وساق، إلا أنّه وبعد قمع التمرّد تمامًا، تمّ تشجيع السكان المحليين والصحافة والإعلام على التجوّل بصمتٍ في أنحاء المدينة المدمّرة، والتي أصبحت كما يصفها فريدمان بـ "مرآب سيارات ضخم"، حيث تمّت تسوية المباني بالأرض فوق جثث أهلها، فكانت قاعدة حماة التي أراد الأسد أن يرسيها هي أنّ الحكم لا يكون إلا بزرع الخوف في قلوب الجميع، فلا يجرؤ أحد على الثورة، وإن جرؤ فإنّ أوّل قواعد قمع الثورة هي أنّه لا يوجد قواعد لقمع الثورة، أي إنّ كلّ شيءٍ مباح ومتاح، وإنّ كلّ ما لا يتصوّره عقل سليم يمكن أن يحدث.

ورث بشّار الأسد حكم أبيه وورث معه قواعده في الحكم، لكنه لم يطبّقها فقط على حماة، بل على سائر البلاد، وها هي المدينة (حماة) أثناء كتابة هذه السطور تتحرّر من حكم عائلة الأسد بعد مرور 35 عاماً على المجزرة التي راح ضحيتها 20 ألفاً على أقلّ التقديرات، فيما الثوّار في ميادين حلب يلعبون الكرة برأس تمثال حافظ الأسد، والمهجرون يتوافدون من إدلب إلى بيوتهم التي هُجّروا منها هربًا من الموت الذي كانت تغدقه عليهم بسخاء الطائرات الروسية وأسلحة المليشيات الإيرانية.

الأمل عند الشعوب خطر وجودي يهدّد القصور والعروش

لا شكّ أنّ مشاهد السجناء الذين يُحرّرون من جحيم معتقلات النظام السوري بعد أن فقدوا الأمل في الحرية، ومشاهد الأُسر التي تعود إلى بيوتها تتفقدها وتزيل آثار الحرب عنها، ومشاهد الرجال الذين، وإن غطى الشيب رؤوسهم، إلا أنّهم تحوّلوا إلى أطفال صغار في أحضان أمهاتهم وذويهم بعد أن حُرموا منهم لسنوات عديدة.. هي مشاهد تبعث على البهجة والأمل، تمامًا كمشاهد الغزيين الذين عبروا سور الفصل العنصري يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل ووطئت أقدامهم لأوّل مرّة منذ عقود أراضي آباءهم وأجدادهم المحتلة. لكن الأحداث الجسام التي أعقبت ثورات الربيع العربي، والتي أعقبت كذلك يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل زرعت في قلوب العرب ما مفاده "أن الأمل ضار جدًّا بالصحة وقد يؤدي إلى الوفاة"، تمامًا كما زرع حافظ الأسد في قلوب السوريين "قواعد حماة"، فاختلف الاحتلال وأعوانه مع سورية وإيران ظاهريًّا، لكنهم اتفقوا على أنّ الأمل عند الشعوب خطر وجودي على عروشهم ومشاريعهم.

يُعاقب أهل غزّة اليوم على جريمة زرع الأمل، تمامًا كما عوقب السوريون على الجريمة ذاتها لسنوات عديدة، لكن لا يبدو أنّ أحدًا منهم قد تراجع عن جرمه حتى الآن، فهم ماضون في طريقهم إلى ما شاء الله، فهل من عاقلٍ رشيدٍ يزيل الأمل من لائحة الجرائم التي يعاقب عليها القانون أم أنّه سيظل جريمةً يقترفها العرب باستمرار ضاربين بالقوانين والقواعد عرض الحائط؟