ثلاثية البرستيج والصلاة والمعنويات
لدينا في الحكومة الحالية التي تفاءل كثيرون بيننا بوجوهها الجديدة على شاشة الشأن العام اللبناني، باقة منوّعة من مرتكبي الغرائب والعجائب. وإن كانت بعض الأخطاء متوقّعة من شخصيات جديدة على الشأن العام بالحجم الوزاري، وإن كان ممكناً الأخذ بعين الاعتبار الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد لجهة تعرّضها لوصايةٍ مباشرة من خارجٍ فظ، إلا أنّ توالي تلك الأخطاء التي يرتقي بعضها إلى وصف خطيئة وطنية، لم يعد محتملاً، خصوصاً أنّ أصحابها لم يُبدوا أيّ تراجع عنها بعد انتقادهم، بل عنّدوا ومضوا كما لو كان الرأي العام، إضافة إلى الصواب القانوني، آخر همومهم.
تنم تلك الأخطاء عن خلطٍ بين الأيديولوجيا الحزبية وسياسات الدول، إضافة إلى تخطّي الصلاحيات وتجاهل أصول التعامل الدبلوماسي. فإن أضفنا إليها أنواعاً من الأساليب اللغوية تراوح بين بذاءة أولاد الشوارع ونبرة المليشيات أيّام الحواجز على الهُويّة، فإننا نحصل على صورة مؤسفة للحكومة الحالية تتناقض مع الصورة التي أوحى بها وجود رئيسها القاضي المحترم نواف سلام. كيف لسلام، الرئيس السابق لأعلى هيئة قضائية وقانونية أيِ المحكمة الدولية، أن يرضى بأداء هؤلاء في حكومته؟
وزير خارجية، هو القوّاتي يوسف رجي، تستدعيه سفيرة الولايات المتحدة إلى مقرّ سفارتها، فيخفّ إليها ممنوناً ومتحمّساً بدلاً من أن يطلب إليها أن تأتي إلى مقرّ وزارة الخارجية كما تنصّ القوانين والأعراف الدبلوماسية.
توالي الأخطاء التي يرتقي بعضها إلى وصف خطيئة وطنية، لم يعد محتملاً
الوزير نفسه، يحجم عن إصدار أيّ موقف رسمي يدين الخروقات الجوية والاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة التي تطاول مناطق على امتداد خريطة بلاده، ويغفل واجباته في توثيق الاعتداءات ورفعها إلى المحافل الدولية! وحين يسأل إدانة لتلك الاعتداءات؟ يبرّر للعدو خروقاته وينحو باللائمة على حزب الله، والذي يعرف القاصي والداني أنه يلتزم منذ نهاية الحرب اتفاق وقف إطلاق النار!
ثم يرتكب خطأ دبلوماسياً هزلياً باستدعائه سفير دولة على خلفية تغريدة له لم يذكر فيها من بعيد ولا من قريب لبنان! أقصد حادثته الشهيرة مع السفير الإيراني، في حين يدعوه مواطنوه ليل نهار للتنديد أو الاعتراض على تدخلات سفراء دول أخرى بشكل وقح في الانتخابات والشؤون الداخلية اللبنانية، فلا يفعل، ما دعا الكثيرين ليتساءلوا إن كان هذا الوزير هو وزير خارجية لبنان أم وزير الخارج؟
والأنكى من ذلك، يتصرّف هذا الوزير، كما في فيديو سُرِّب لاجتماع له في الوزارة مع موظفي وزارته، بفظاظة، مستخدماً عبارات نابية وبذيئة لتعنيفهم على تقصيرهم، بدلاً من الالتزام بالقانون وإحالتهم إلى التأديب، واصفاً نفسه، تدليلاً على قوّته، بألفاظ لا يمكن تردادها هنا لأنّ قانون المطبوعات يطاولنا! كما يأمر حرس الوزارة، في معرض استعراضه لإجراءات محاربته لسماسرة يسترزقون من بيروقراطية معاملات الوزارة أن "يدعوسهم" إن اعترضوا!. ما هذا؟
صورة مؤسفة للحكومة تتناقض مع الصورة التي أوحى بها وجود رئيسها القاضي المحترم نواف سلام
عكس هذا الوزير الفظ بخلاف ما تتطلّبه مهام وزارته الدبلوماسية، فإنّ وزير دفاعنا ميشال منسى، وعلى الرغم من كونه عسكرياً سابقاً ينتظر منه الحزم والصرامة، رجلٌ دمث، ولو أن تلك الدماثة المشكورة عادة، لم تكن في مكانها انطلاقاً من موقعه وزيرَ دفاع لبلاد جيشها ممنوعاً من التسلّح خلال تعرّضه لعدوانٍ شرس ومستمر.
هكذا، بدا في فيديو راج أخيراً على مواقع التواصل، أشبه بمؤمن في قداس الأحد، شاخصاً نحو السماء يرجو منها المدد بموضوع مثل تسليح الجيش، معتبراً أنه بالصلاة كلّ شيء سيتحقّق، وأنّ الأهم من البنادق والذخيرة للجيش اللبناني هو البرستيج! إي والله!
لا تصدقوني؟ أنقل اليكم الحوار بأمانة:
"في جنوب الليطاني رداً على سؤالك، هناك تقدم (يقصد نزع سلاح حزب الله والانتشار). وانشالله الأيام الحلوة ستبدأ تباشيرها. كله بدو شغل، إنما بالصلاة منقدر نستحصل على كل شي". ثم يسأله الصحافي: "هل الجيش اللبناني جاهز؟" يقصد للانتشار والحلول جنوب الليطاني مكان المقاومة؟
جواب: "الجيش اللبناني على طول جاهز. بالقليلة (على الأقل) بالبرستيج (الهيبة) تبعه. هيدا هوي اللي جاهز فيه!! وهيدا هوي العنوان والمعنويات اللي بيقدر يعطيها للبلد. ما خص (لا علاقة) للسلاح، بارودة ولا رشاش ولا ذخيرة. معنويات الجيش هيي اللي بتجي (!!) بس بدنا يفهموا الناس اللي لازم يعطوا معنويات يعطوا للجيش".
في ظلّ إصرار أميركا وإسرائيل على تدمير الأسلحة المُصادرة من حزب الله عوضاً عن احتفاظ الجيش بها، ستحصل الدولة على حصرية "البرستيج" بدلًا من حصرية السلاح.
حسناً، ليس رائجاً أن يكون العسكري متحدّثاً بليغاً، ونعلم تمام العلم أنّ الإرادات الخارجية تتحكّم في لبنان حالياً، لكن على الأقل ليكن كلامه معقولاً! فأن يقول وزير دفاعك، وأنت تتعرّض كلّ يوم لاعتداءات من نوع اغتيال مواطنين في سياراتهم وبيوتهم، ومن نوع احتلال أراضيك وأجوائك، إنّه بالصلاة سنحلّ كلّ المشاكل مع إسرائيل؟ فعن أيّ معنويات يتحدّث الوزير؟
أمّا عن حاجة الجيش اللبناني إلى السلاح، فهو الذي يفتقر إلى أقل مستوى من الأسلحة الدفاعية ويُجبر على تدمير الأسلحة التي يصادرها من المقاومة بدلًا من الاحتفاظ بها تحت بند حصرية السلاح بالدولة، فإنه سيكتفي بـ "البرستيج". أمّا الذخائر من بنادق وكلاشينكوف وغيره؟ فهذه لا يحتاج إليها.. أصلاً ليست هي المهمّة في حياة الجيوش.
نستنتج من ذلك أنّ الدولة اليوم استَبدلت ثلاثية: "الشعب والجيش والمقاومة" التي كان الحزب والدولة اللبنانية يرفعانها في السنوات السابقة، بثلاثية: "البرستيج" والصلاة والمعنويات؟ وأنّ الدولة اللبنانية، وفي ظلّ إصرار الأميركيين والإسرائيليين على تدمير الأسلحة المصادرة من حزب الله عوضاً عن احتفاظ الجيش اللبناني بها، ستحصل على حصرية البرستيج بدلاً من "حصرية السلاح"، وهذا في الحقيقة سلاح غاية في التفوّق.