تنقيب إسرائيل في "كاريش"...

تنقيب إسرائيل في "كاريش"... لبنان راقصاً على خطوط الأزمات الإقليمية

12 يونيو 2022
+ الخط -

 

الصورة
تنقيب إسرائيل في كاريش (المصدر فرانس برس)

بات لبنان اليوم على مفترق بحري ونفطي صعب، لا يعرف في أي اتجاه ستبحر به سفينة الحفر اليونانية التي لا يعرف حتى الآن ما إذا كانت راسية في المنطقة البحرية المتنازَع عليها بين لبنان وإسرائيل، أو على بعد قريب منها، أو على حدود ما بات يعرف بالخط 29 والذي بات مادة مواجهة سياسية داخلية بين الفرقاء اللبنانيين المتنازعين.

فيما تشي المعطيات البحرية التي تلاحقت في الأيام الأخيرة بأن مصير المنطقة محددة وجهته بحسب الوجهة التي ستسلكها تلك السفينة، إما في اتجاه التوتير وتصعيد وفتح المنطقة على تداعيات دراماتيكية، وإما في اتجاه التبريد وعودة الأطراف إلى طاولة المفاوضات لحسم الخطوط النهائية للحدود البحرية للبنان، وكذلك المنطقة التي تقول إسرائيل إنها خاضعة لها.

والفصل في هذا المجال ينتظر ما قد يحمله معه مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون أمن الطاقة آموس هوكشتاين، الذي يفترض أن يصل إلى بيروت خلال يومين، وربما قبل ذلك، على حد ما يتوقع معنيون بملف الترسيم.

والأجواء التي سبقت وصول هوكشتاين إلى بيروت ملبّدة باحتمالات شديدة الخطورة، وضعت الحدود البحرية على نار الغليان، مع خشية حقيقية لأن يبلغ هذا الغليان حد تفجير تتأتى منه حرائق تمتدّ من البحر إلى البر، في ظل اللغة الحربيّة التي تصاعدت بين حزب الله وإسرائيل خلال اليومين السابقين، وهناك تساؤلات تدور حول هذا الملف، وهي هل المنطقة تتجه لحرب (نفطية - بحرية) بين إيران وإسرائيل عنوانها حقل كاريش، أم أن السقوف العالية في السياسة والأمن هي مجرد كلام نتيجة الاستعصاء في مفاوضات فيينا بين طهران والدول الكبرى يهدف الطرفين للجلوس مجدداً على الطاولة والنقاش لإيجاد مخارج وتفاهمات؟

فيما السياقات التحليلية لتلك الأسئلة ترجمت عبر تقرير الهيئة الدولية للطاقة الذرية والتي كانت عالية اللهجة انطلاقاً من عدم التزام الإيرانيين بالاتفاقيات النووية، معطوفة على تصريحات إسرائيلية بغية الضغط على واشنطن والدول الغربية لوقف أي حوار ونقاش مع النظام الإيراني وإحالة الملف النووي إلى مجلس الأمن واستصدار عقوبات قاسية ضد طهران وحلفائها الإقليميين.

لذا تبدو مقومات التصعيد ماثلة وواضحة. لكن غير المتوفر هو الرغبة لدى الطرفين بالتصعيد والحرب، في المقابل تبدو كل مقومات التصعيد جلية ومؤشراتها ظاهرة، بدءاً من المسيرات على القنصلية الأميركية في أربيل، إلى تصعيد المواقف التفاوضية على ترسيم الحدود البحرية في لبنان، مروراً باستمرار العمليات الإسرائيلية في سورية وقصف منشآت حيوية آخرها مطار دمشق واستمرار عمليات الاغتيال في شوارع إيران والتي تستهدف قيادات أمنية وعسكرية إيرانية.

لبنان على أعتاب أزمة مفتوحة وغير واضحة المعالم طالما أن الأطراف حريصة على مقايضة الحقوق الوطنية بالمصالح الشخصانية

بالتوازي تلجأ إيران لخطابات عالية تجاه إسرائيل والتهديد بقصف مدن إسرائيلية، والمواقف الأميركية تتكثف مع مزيد من الضغوط على طهران. وآخرها ما قاله رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، وهو عضو فاعل في الحزب الديمقراطي، معتبراً أن بايدن بمواقفه يضعف حزبه قبل الانتخابات النصفية. وهذه إشارة إلى أن بايدن وفريقه الرئاسي وحزبه يكثفان الهجوم على إيران، مطالبين الإدارة بإجراءات تصعيدية ضدها ريثما ينجلي غبار المعركة الانتخابية في الخريف المقبل بين الجمهوريين والديمقراطيين.

لذا فإن زيارة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين لبيروت بداية الأسبوع المقبل ستزيد من نسبة التوتر على الساحة اللبنانية، في ظل التناقض الواضح في الأطروحات السياسية والعسكرية والبحرية بين المكونات، وتبدأ هذه التوترات من خطوط الترسيم البحري وعدم التوافق على أي منها، والتي سترفع من حدة الخطاب السياسي بين حزب الله من جهة وبين معارضيه من جهة أخرى، في ظل رفض الرئاسة والحكومة الاقتراحات الخاصة بتعديل المرسوم 6433 والذي يتهرب عون من إمضائه منذ سنة لمقايضته بعقوبات جبران باسيل.

وهذه المناكفات والمواجهات الداخلية تتزامن مع دخول البلاد في مجموعة استحقاقات دستورية بالغة الدقّة والحساسية، وأبرزها التحضير للاستشارات النيابية الملزمة التي سيدعو إليها رئيس الجمهورية، لتسمية من يُكلّف بتشكيل الحكومة في ظل صعود مجموعة أسماء سيجرى طرحها لتولي هذه المهمة الدقيقة، وخاصة أن هذه الحكومة ستتولى إدارة مرحلة الفراغ الرئاسي المتوقع ريثما يجرى الاتفاق على رئيس جديد للبلاد، ما سيؤدي إلى مزيد من التخبط على الساحة السياسية، في وقت ترتفع فيه التحدّيات والمالية والنقدية والمعيشية في ظل الإضرابات المفتوحة والتي تأخذ طابعاً احتجاجياً على المقاربة السلطوية للأزمات والمعضلات المالية والنقدية، والعجز عن الحد من ارتفاع أسعار الخدمات العامة وتلاشي أخرى.

وأمام هذا الاهتراء اللبناني اللا متناهي ثمة عوامل إقليمية متعلقة بجملة المصالحات الحاصلة في المنطقة والتي ستتوج بإعادة ترتيب العلاقة (السعودية - الأميركية)، مع ترقب زيارة الرئيس الأميركي بايدن الرياض يوليو/ تموز المقبل، معطوفة على جهد أميركي لتشكيل تحالف إقليمي يهدف لإيجاد توازنات عسكرية وجوية بين إيران ودول المنطقة عبر خلق مظلة (إسرائيلية - عربية) تنضم إليها تركيا مستقبلاً لمواجهة المسيرات الإيرانية والصواريخ الدقيقة في المحيط، بالإضافة إلى تحضيرات لعقد قمة رفيعة المستوى بين دول عربية وإسرائيل (قد تحضرها السعودية)، للإعلان عن إجراءات تنسيقية من شأنها زيادة الضغط على إيران، وهذه القمة كانت محط نقاش بين رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت منذ يومين في أبوظبي.

وثمة وجهة نظر أخرى تشير إلى أن هذه التصعيد بين طهران وتل أبيب والقوى الإقليمية والدولية مرده الأساسي إعادة فرض توازنات جديدة، وخاصة أن هناك رغبة لدى جميع الأطراف الفاعلة في إبقاء مسار المفاوضات قائماً، حتى من دون التوصل إلى تفاهم.

وذلك حفاظاً على خريطة المنطقة الجيوسياسية، في العراق وسورية واليمن واستمرار وقف أعمال القتال الدائرة، وأن ما فعلته إسرائيل باستقدام المنصة الخاصة بالحفر والتنقيب هو من خرق جدار الهدنة السائدة منذ مدة، لكنه قد يعود إلى الهدوء عقب تفعيل المفاوضات وانتظار لبنان عودة آموس هوكشتاين إلى بيروت.

وزيارة الموفد الأميركي هوكشتاين إلى بيروت عقب اتصالات انهالت عليه من كل الرئاسات والقنوات المفتوحة، تشي بأن الرجل غير مهتم بكل ما يجرى طرحه من مناكفات ومزايدات بين الأطراف، وهو سيطالب بأمر واضح وصريح وهو تسليمه نصاً مكتوباً على مقترحه الأخير باعتماد لبنان حقل قانا مقابل التخلي عن كاريش، مع التشديد على أن المنطقة لا تحتمل أي توتر عسكري أو أمني، فالإدارة الأميركية تحدثت بالتزامن مع إعطاء هوكشتاين الإذن المسبق للسفر إلى المنطقة، عن حاجة العالم وحلفائها الأوروبيين إلى غاز المتوسط قبل فصل الشتاء المقبل، تعويضاً عن النقص الناجم عن العقوبات المفروضة على روسيا، وهي تتحدث تحديداً عن الغاز المكتشف في شرق المتوسط، لاستغلال خطوط النقل المشتركة بين إسرائيل ومصر وقبرص وتركيا في اتجاه أوروبا، لذا فإن جهداً تبذله قطر مع طهران للحد من توتر محتمل في الإقليم وإعادة الجميع لطاولة تفاوض عملاني يوقف التصعيد.

ولا يمكن فصل التحضيرات الجارية لعملية عسكرية تركية في الشمال السوري، وخاصة أن أنقرة تبدو جادة بها انطلاقاً من الغياب الروسي والانشغال في أوكرانيا، والتحدي الخفي بين موسكو وطهران على بعض المناطق السورية، حيث تتصارع قوى الطرفين وحلفائهما. وكل ذلك يجري على وقع الفشل في إحياء مفاوضات فيينا، والرغبة الروسية بفشل الاتفاق كي لا تدفع الفاتورة النفطية منفردة، وعليه فإن لبنان على أعتاب أزمة مفتوحة وغير واضحة المعالم طالما أن الأطراف حريصة على مقايضة الحقوق الوطنية بالمصالح الشخصانية.