"تنذكر ما تنعاد"؟

19 ابريل 2025
+ الخط -

مع أنّه شعار غاية في الحكمة، درس حقيقي مُستخلص بالدموع من تاريخ الشعوب التي استفادت، أو لم تستفد منه سواء بسواء، إلا أنّ هذه العبارة تبدو لي اليوم، أنا المواطنة اللبنانية التي أكلت الحرب الأهلية طفولتي ومراهقتي، ثم أكل السلام البارد، المتقطّع السخونة أحياناً، ما تبقى منه، نوعاً من دعاء أكثر منه شعاراً لتلافي تكرار مأساة الحرب الأهلية، شيئاً يشبه تمنيات مهذّبة من نوع "إن شاء الله" أو "أطال الله عمركم".

فنحن أيّها القرّاء الأعزاء مواطنون في بلد النسيان. نبدو، حين يكون علينا التذكّر تائهين بعض الشيء، نعصر أدمغتنا لاستحضار أحداث ماضينا، كما لو كنّا قد شربنا من ماء دسّ فيه أحدهم عقاراً يصيب الذاكرة ويجعلنا ننسى الأمس كما لو أنّه لم يكن. ننسى تلك الحرب على الرغم من ندوبنا الكثيرة وجثث الأحبّة التي نجرّها خلفنا من دون أن نستطيع دفنها، على الرغم من الأسئلة التي لم تجد أجوبتها بعد، ومن التروما الجماعية لجيلنا، نحن الذين عشنا الحرب الأهلية.

قلت "تنذكر ما تنعاد"؟ يا ليت! وكيف نفعل؟ وإنّ كان جيلنا ما زال يذكر تلك الأحداث الرهيبة التي حفرت في وعينا وتمنعنا إلى هذا الحد أو ذاك من تكرار ما حصل، لكن، ماذا عن الأجيال التي ولدت بعدنا، تلك التي لم تعش الحرب، ولا ما حدث في سنواتها الفظيعة؟

كُتبت كتب؟ صحيح. دُبّجت مقالات ودراسات؟ لا شك. لكن، أين هي رواية ما حدث؟ لكلّ فريق روايته التي تناقض رواية الآخرين. خمسون عاماً مضت على تلك الحرب وكتاب التاريخ الرسمي، أقصد ذلك المُعتمد في المدارس الحكومية، يتوقف عند جملة تقول إنه وفي عام 1975 اندلعت حرب أهلية. أما لماذا؟ فلأن بوسطة ركابها فلسطينيون ولبنانيون كانت تمرّ في حي مسيحي في بيروت اسمه عين الرمانة، وقد أطلقت قوى يمينية النيران عليها وقتل من فيها واشتعلت الحرب إثرها. يورد الكتاب الخبر على أنه السبب. أما قبله؟ فقد كانت "فينيقيا الفوقا" و"فينيقيا التحتا" تعيشان في وئام وتعايش.

لكلّ فريق لبناني روايته عن الحرب الأهلية، التي تناقض رواية الآخرين

ما هي المقدّمات؟ من هم الأفرقاء؟ كيف تطوّرت الأمور؟ ما هو دور الخارج؟ من موّل تلك الحرب؟ ما هو مصير المفقودين والمخطوفين والمخفيين قسراً؟ صمت تام، وفي أحسن الأحوال كلام مدوّر لا معنى له، يغمغم لكيلا يقول شيئاً، يماطل ليربح المزيد من الوقت على أمل النسيان بتقادم الزمن. 

وحتى ما يرويه كتاب التاريخ الوطني عن ماضي حروبنا، عن كلّ ما حدث قبل ذلك، يبدو لنا اليوم من أعالي العمر الذي وصلناه أشبه بحكايات مُنتقاة تُروى لأجانب مستشرقين. آه، كانت هناك أيضاً حرب الجلّة، حيث اختلف طفلان (مسيحي ودرزي على ما أظن) كانا يلعبان الكلّة، فتضارب أهلهما وكانت حرب 1860 التي ذبح فيها من الفريقين عشرات الآلاف بشراسة قلّ نظيرها. نعم نحن نحبّ الجلّة لهذه الدرجة.

هكذا نكتب تاريخنا وهكذا نتذكّره، فكيف نتذكّر فعلاً الحرب الأهلية كيلا نكرّرها؟

اليوم، التاريخ اللبناني الذي يُلقّن للأجيال الناشئة، فعلياً، شفهي بأغلبه. كلّ فريق شارك في تلك الحرب ينقل روايته لأبنائه. فيشبون على الثقة بمظلوميتهم، والرغبة بالانتقام من الآخر الذي لا يشبههم، ولو بمساعدة الخارج، حتى لو كان ذلك الخارج الشيطان نفسه.

لم يطلبوا الصفح من ضحاياهم. ولا مرّة. ولم يرغبوا بالمصالحة واستعاضوا عنها بالتحاصص وتقاسم السلطة والقوّة

وكما راهن الإسرائيليون على نسيان الأجيال الجديدة من الفلسطينيين لقضيّتهم، راهن مجرمو الحرب الأهلية الذين رفعوا أنفسهم من الحاجز إلى السلطة لعجزنا نحن رهائنهم عن محاسبتهم، على نسياننا لما فعلوه. لم يطلبوا الصفح من ضحاياهم. ولا مرّة. ولم يرغبوا بالمصالحة واستعاضوا عنها بالتحاصص وتقاسم السلطة والقوّة، ولقد نجحوا في الحقيقة.

ها هي الأجيال الجديدة التي تكبر من دون كتاب تاريخ حقيقي، من دون رواية ما حدث فعلاً. ها هي تكبر ويتربّى كلّ في زاروب طائفته على روايتها لما حدث، ولكلّ زاروب روايته، وحقده، ومبرّرات كراهيته للزواريب الباقية.

كلّ زاروب يريد أن يعلن نفسه دولة بحجّة "إنهم لا يشبهوننا". أن يستقل بمساحته ليهندسها كما يشاء، كما يفعل بناة بيوتهم في بعض القرى من دون اكتراث للمشهد العام. أحدهم يبني على شكل عمارة صينية وآخر بيت أميركي مع "غازون" والثالث فرنسي أو تركي.. ليثبت للآخر المكروه، ولنفسه بالطبع، أنّه يستطيع أن يحيا، لا بل أن يحيا أفضل من دونه، متخفّفاً من أثقال التعايش، وكليشيهات التكاذب الطائفي الفولكلورية.

يتربّى كلّ في زاروب طائفته على روايتها لما حدث، ولكلّ زاروب روايته، وحقده، ومبرّرات كراهيته للزواريب الباقية

قلتم "تنذكر ما تنعاد"؟ لا يا حبيبي. سوف لن "تنذكر" هذه الحرب، سوف تُنسى تماماً بعد جيل أو جيلين. وبما أنها ستمّحي من الذاكرة الوطنية، فهي بالطبع، أوتوماتيكياً، سوف "تنعاد". فأجيالنا تحبّ دائماً أن تبدأ من الصفر، كأن لا أحد جرّب شيئاً قبلها. ستتكرّر إن بقي هذا النظام، وبقينا نستعيض عن الهُويّة الوطنية بهُويّات طائفية امتدادها للخارج، حائرين لا نعرف من نحن، لا نتفق على من هو العدو ومن هو الصديق، ولا نجلس إلى طاولة وفاق وطني إلا بالإجبار الخارجي.

أصلاً هذه الحرب، ومنذ خمسين عاماً، لم تنته. حلّت مكانها نسخة باردة لنقص في التمويل والذخائر. أما الإرادة؟ فموجودة، تحسّ بحماوتها في الشوارع المتوتّرة طائفياً واقتصادياً، وتلك المفروزة عنصرياً مفضّلة الصفاء الطائفي على الاختلاط ببقية اللبنانيين، هي تنتظر فقط أن يحين وقتها لتنفجر في دورة عنفٍ جديدة.

لذا، وفي ذكراها الخمسين، لن "تنذكر" حربنا الأهلية الأخيرة، ولذلك سوف "تنعاد"، وبشكل أشرس وأفظع. فالأجيال التي تكبر مستبطنة دروس الإبادة الإسرائيلية واللامبالاة بالحياة الإنسانية، مضافة إليها كراهية شركاء الوطن ونسيان الماضي، ستعيد الكرّة من دون أن يخطر ببالها أنّ ما تقترفه أياديها، ما هي إلا نسخة أسوأ من حروب سبقها إليها آباؤها وأجدادها.

هؤلاء الأجداد الذين بدورهم اقترفوا بحقّهم جريمة تزوير التاريخ.