تغيّر خريطة الشراكة

16 مارس 2025
+ الخط -

وكأني أراها ذلك البلد الموغل في دم أبنائه، تمتد من الجرح الدامي نحو الخوف العظيم. لا تمنح الكلمات للحدث الجاري معنى الكارثة، بل تمنح الكارثة للغة خفة لا تليق بها، يتغير الموقف من الضحايا، التجاهل عمدًا هو سيد الموقف! وماذا عنك؟ شريكي العتيد؟ الذي تشاركت معه إحصاء أعداد القتلى، رائحة الدم، الأماكن الشاغرة من أهلها، الأصوات الغائبة الباحثة عن صدى تفجعها، تشاركت معك الخوف المطلق، والانكفاء عن ترديد رواية واحدة يفرضها الأقوى.

تشهد المراحل الانتقالية بعد الثورات العظيمة رغم طول امتدادها تبدلًا فاقعًا في العلاقات، وتبدّل العلاقات أمر طبيعي إن كان ينتمي للمستقبل، لكنه هنا يتماهى مع اللحظة الآنية حادة التبدّل في اضطرابها المستعر غير المستقر، تتلاعب المصالح والمتغيرات الطارئة وتلك التي تمت مراكمتها لوقت طويل، تتلاعب كلها بخريطة العلاقات المستجدة! تصحو فجأة لتعلن بأسىً وقلق بالغين: "أرجوكم لا أريد أن أبقى وحيدًا! أخاف وحدتي لأنكم لستم معي".

يعيش السوريون والسوريات حاليًا معارك حادة، غير حاسمة، ولا تنتمي لفرق متحاربة مختلفة، بل تنتمي لذاكرة الدم ولذاكرة الوقت الذي يرفض كل شيء، ما عدا حمى التهليل والتهويل بتحقق العدالة. تعوم تلك المعارك على حوامل مجتمعية خسرت الكثير، لكن شعارات التعويض وطرائقه صادمة جدًا، انتقائية وربما إقصائية، لكنها بتمعن بسيط وبتحليل مختص تبدو وكأنها كناية عظيمة عن جوهر تبدل السمة العامة للمرحلة، ولكل مرحلة رموز مرنة جدًا في مصادرة المشهد العام وزجه في خطاب يمجد النفس وأولي الأمر في سياق واحد مطلوب بسط سيطرته وتعويمه كخطاب حصري، وحيد، ومستفرد بالحالة العامة كلها.

نعيش مرحلة استقطابية حادة، لا تقبل إلا الانجرار خلف اصطفاف مشروط بالولاء، بالتشابه المطلق بين آراء وردود فعل الذين غمرتهم زهوة الانتصار الساحق وكأنه خاتمة الحياة وذروة الفرح! يتحول النصر هنا إلى خزان ضخم من ذاكرة لم تبرد ولكنها واظبت على شحن نفسها بالصور والمراثي الحصرية، ذاكرة تلتزم بتكرار وجه واحد للفاجعة التي سبقت وتنكر الفاجعة التي لحقت، عبر تجاهل أو التشكيك بكل حكايات المعارك التي دارت أو تدور في شوارع أخرى، أو ذواكر أخرى لا تعني أحدًا.

بلغت التناقضات حدها الأقصى، مواجهات لفظية، اتهامات بالمبالغة، تخويناً واستخفافاًٍ بالحقائق، والأهم عبارة توصف الموقف الحالي: "لم تعد شريكي!" فجأة، انفكت أواصر الشراكة فجأة وبقرار ممن يدعي أنه الأقوى اليوم، يبدو البشر المتضامنون مع كل جرح بغض النظر عن جنس وطائفة ولون وعرق واسم صاحب الجرح غير مرغوب بهم في زحمة الشعور بأنهم الأكثرية، في زحمة الاستحقاق ينظر البعض إلى أن الأحقية للأقوى وليس للجميع.

ومهما حاول الضحايا التنصل من جرائم وصمتهم بالعنف، حاولوا تبرير صمتهم مع أنه كان حالة شبه عامة في ظل التضييق والتهديد الأمني الهائل من القتلة السابقين الذين بالغوا في التوغل في دم الجميع.

رغم حدة الاستقطاب ستنجو غالبية العلاقات من شبح انفصال العرى الوثيقة، ستنجو الرغبة بواقع جديد بلا ظلم وبلا تمييز. لكن الانكفاء عن الشأن العام والانشغال في تفاصيله العامة والمتجددة في خطر بيّن، لأنها قد ترتد على دوائر ضيقة مغلقة بسبب الخيبة الكبيرة أو بسبب العجز! تكمن عقدة الحل في عقدة الخلاف ذاتها، التي تحتاج وقتًا للتبصر وإرادة باستمرار مد اليد للشريك ابن البلد وابن الذاكرة الواحدة التي تشتهي انفكاكًا صريحًا وحاسمًا عن ذاكرة الدم والمجازر.

يبدو، أنه ومن صلب تغير خريطة العلاقات سيعيش السوريون والسوريات كل الخبرات السابقة للمرحلة الانتقالية في بلاد أخرى مع بصمة سورية خالصة، بصمة تؤجج الرغبة العارمة بالخلاص من إرث الحروب، وتؤكد السعي نحو العدالة مهما تغيرت خريطة الشراكات.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.

مدونات أخرى