تصريحات ترامب وتحوّلات العالم العربي

06 فبراير 2025
+ الخط -

في البداية، من الضروري الإشارة إلى أنّ أسلوب الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعكس منهجية الجمهوريين في تنفيذ السياسات الأميركية، التي تعتمد المكاشفة حدّ الصلف والتجبّر من دون إيلاء أيّ اعتبار لعنصر "الإخراج" أو التسويق الذي يعتمده الديمقراطيون، إذ نذكر جميعاً منهجية إدارة بايدن في تسويق الصراع وتقاسم الأدوار مع العدو الإسرائيلي ومحاولة بيع صورة عن وجود تباينات بينهما وتسريب معطيات عن خلافات حادة بين نتنياهو وبايدن وتوبيخ وغير ذلك من أدوات الدعاية، وبالتالي، فإنّ هذه المباشراتية التي نراها في تصريحات ترامب ليست غريبة عن الجمهوريين ولا عنه هو بالذات. لذلك وجب التحذير من الشحنات النفسية والجرعات الزائدة من الفزع والهلع التي قد ترافق التحليل، وأحياناً يصبح مؤسّساً عليها، فنُهمل مسارات التحليل وسياقاته تحت وطأة العواجل والحصريات.

إنّ الولايات المتحدة الأميركية هي نفسها الدولة العميقة (عقل الدولة) التي تتوزّع أفقياً بين الديمقراطيين والجمهوريين والبنتاغون وكالة المخابرات المركزية، فلا تتغيّر ملامح سياستها الخارجية في أصولها وثوابتها (إسرائيل من هذه الثوابت)، بقدر ما تتغيّر في طرق الضغط والمساومة والابتزاز. عندما يعبّر ترامب عن تمسّكه بالتهجير وينظر إلى غزّة باعتبارها أرضاً للاستثمار، ولاستقدام رجال أعمال من كلّ العالم، فهو يعبّر عن خيار أميركي ثابت، ولكن بنظرته وخلفيته رجلَ مال واستثمار. أعتقد أنّ تقديم خطاب ضاغط على الأردن ومصر في ملف التهجير والذهاب بالإحراج حدّ الإهانة يندرج ضمن طلب الأكثر لتحصيل المطلوب، إذ صرّح يوم 4 فبراير/شباط 2025 "أن السعودية لا تريد دولة فلسطينية"، ويأتي هذا بعد اجتماع سداسي عُقد في القاهرة يوم 1 فبراير 2025 وضم كلّاً من الإمارات العربية المتحدة، المملكة العربية السعودية، دولة قطر، جمهورية مصر العربية، المملكة الأردنية الهاشمية والسلطة الفلسطينية. والأرجح أنّ هذا الاجتماع كان بدعوة وطلب سعودي يعي أنّ أي تهديد بكلّ من مصر والأردن ستتأثّر به السعودية بشكل مباشر، وبالتالي، هي محاولة لتشكيل كتلة عربية، هي متفقة ومنسجمة مع السياسة الأميركية في المنطقة إلى حدٍّ كبير، وفي الوقت عينه رافضة ملفَ التهجير ومستعدّة للتفاوض بخصوصه. وبالتالي، لا يمكن للأميركي ألا يعير اهتماماً لموقفها بقدر ما سيضغط عليها ويحرجها قبل أن تأتي إلى طاولة الاتفاق. إنّ المدخل الأساسي للقضية الفلسطينية في العقل الأميركي هو ملف تطبيع السعودية مع الاحتلال الإسرائيلي مقابل الاعتراف بدولة فلسطينية أو حتى الشروع في مسار إقامة الدولة (وعد)، وهذا ما يمكن أن تهضمه وتقبله السعودية وتنجح في تسويقه على أنه حصاد الميدان الذي نجحت في تحقيقه بالسياسة وحسن التدبير، لكن المعضلة الأساسية متعلّقة بالعقل الإسرائيلي الذي لم يعد قادراً على هضم هذا النوع من التسويات ولا على التعامل معها. وفي هذا السياق أيضاً، يمكن إدراج تصريح ترامب، الذي ذكرناه سابقاً، عن موقف السعودية الرافض دولةً فلسطينيةً، في شكل رسالة طمأنة للنخب الإسرائيلية التي بلغت حداً من التطرّف يمنعها من قبول أيّ تسوية وتبحث عن صورة النصر. 

ليست المقاومة معزولة عن شعبها لتتم محاصرتها، بل إنها منبثقة عنه ومتجذّرة في حاضنتها الشعبية تحتمي بها وتحميها

لم تمرّ في كلّ تاريخ إسرائيل السياسي نخبة بهذا الحدّ من التطرّف العقائدي والبراغماتي الذي يضعها في حالةٍ من انسداد الأفق نتيجة عوامل متعلّقة بهندستها الذهنية والنفسية، وإن كانت الظروف التي تحيط بها تخدمها إلى حدٍّ كبير، إسرائيل العقائدية رسّخت فكرة يهودا والسامرة (كامل منطقة الضفة الغربية)  عقيدةً أصيلةً تنبني عليها هوية إسرائيل الدينية وشرعيتها التاريخية، وبذلك تضاعف الاستيطان في الضفة الغربية وبلغ عدد المستوطنين مليوناً، أغلبهم مسلحون ومدربون ومشحونون بعقيدة دينية متطرّفة حاقدة مستعدة للإبادة والقتل ولا تقبل فكرة التعايش. إسرائيل البراغماتية لم تعد قادرة ضمن هذا المناخ أن تنتج "إسحاق رابين" جديد، يعصر التنازلات ويتحايل ويناور ليحصل على ما يريد، وإن نجحت في استقدام نخبة قادرة على أن تفعل هذا، فالمرجح، وفي مناخ من القُصوَوِيَّة، أنها ستلاقي ما لاقاه رابين، أي الاغتيال والتصفية. ونظراً إلى حالة الانقسام المجتمعي الحاد داخل إسرائيل وبداية الشكوك وطرح الأسئلة حول أصل المشروع وشروطه الوجودية، فإن أيّ حدث من هذا النوع سيدفع إلى اقتتال أهلي وحرب طاحنة عنوانها الأساسي هو "المقدّس" وإسرائيل التوراتية.

إنّ هذه المشاكل العميقة التي ستواجه إسرائيل في الأشهر والسنين القادمة يُراد تصديرها إلى ساحات المقاومة في فلسطين وفي لبنان لربح الوقت وإضعاف المقاومة بحروب وفتن داخلية والتعمية على النصر البائن الذي حقّقته المقاومة. وجدير بالاعتراف أنّ هذا نجح إعلامياً إلى حدٍّ كبير، إذ أصبحنا نتداول مخاوفنا من موضوع التهجير بدل الحديث عن انتصار المقاومة وما حقّقته ميدانياً وسياسياً واستراتيجياً وكيف يمكن استثماره. في الكثير من الملفات التي تعني المقاومة والفلسطينيين بالأساس، يجرى إهمالهم من التحليل أو اعتبارهم عناصرَ ضمن الحسابات الافتراضية لا الحسابات الأصلية، وأنّ دائرة الفعل والقرار من خارجهم، في حين أنّه في كلّ المحطات السابقة، وأساساً في "طوفان الأقصى"، تأكّد لنا من هو صاحب القرار ومن يمتلك القدرة على الصمود والمقاومة والحسم. 

أهل غزة آلمهم النزوح وأوجعهم، ومع ذلك عادوا بلهفة وشوق إلى منازلهم

يجب التذكير بالصمود الأسطوري لقوى المقاومة في مواجهة آلة إجرامية صهيونية طيلة ستة عشر شهراً، وإدارتها المقتدرة للميدان التي كسرت قوات الاحتلال ومنعتهم من السيطرة على غزّة وإفشالها كلّ مخطّطات إنشاء منطقة أمنية عازلة في شمال القطاع وتقسيمه إلى ثلاثة أقسام، كما نجحت في الحفاظ على أعلى درجات التأهب والمواجهة على الخطوط الأمامية إلى الأيّام الأخيرة، رغم استشهاد القادة والخسائر الموجعة في الحاضنة الشعبية تحت قصف يعادل قنبلتين نوويتين في مساحة لا تتجاوز 360 كليلومتراً مربعاً. أمام كلّ هذه الأهوال، حافظت المقاومة على امتلاك الشرط الميداني ونقلته إلى طاولة التفاوض، لتنجح في تحقيق الشرط السياسي وتفرض على الاحتلال الإمضاء على اتفاق وقف إطلاق نار مع الطرف الذي وعد في بداية الحرب بمحوه من الوجود. إنّ مقاومة بهذا الاقتدار في السياسة كما في الميدان لها رصيد يسمح لها بمواجهة أيّ خطة تهجير، بل إن صمودها في المعركة الأخيرة هو الضمانة الأساسية لإفشال أيّ ادّعاء في هذا الاتجاه. ليست المقاومة معزولة عن شعبها لتُحاصَر، بل إنها منبثقة عنه ومتجذّرة في حاضنتها الشعبية تحتمي بها وتحميها، وما المشاهد التي رأيناها لعودة النازحين إلى ركام منازلهم في شمال غزّة، وهم يواجهون خطر الإسرائيلي المتهوّر المكسور، إلا دليل على تمسّكهم بأرضهم وبقائهم فيها. أغلب أهل غزة آلمهم النزوح وأوجعهم وهم على عشرات الكيلومترات من دورهم، ومع ذلك، عادوا بلهفة وشوق إلى منازلهم. 

إنّ الصور التي تأتي من هناك، من غزّة، تخبر عن مقاومة حسمت الأمر في علاقة باليوم التالي للحرب وثبّتت وجودها في الميدان، وبين الناس والشعب الذي لم تكسره آلة إجرامية طاحنة أنتجت الموت والدمار أكثر من سنة ولم تنجح في كسر إرادته، ولا في تحويل ملحمة صموده إلى تراجيديا مأساوية تحصد بها مكاسب سياسية. أيّ سيناريو قادم، سواء بشّر به ترامب أو نتنياهو أو غيرهما من قوى التوحّش والتجبر في هذا العالم، فإنّ بيضة القبان في تحقيقه من عدمه هي قوى المقاومة وحاضنتها الشعبية، وكلّ التسويات المحيطة هي بهدف شراء الوقت أو تصدير الوهم أو التعمية على مشاريع أخطر يرصدها العقل المقاوم ويفهمها ويُبادر إلى تفكيكها.

هكذا عوّدتنا المقاومة، فقط يجب أن نفهم ونثق.

السنوسي
أحمد بن لطفي السنوسي
طالب هندسة و كاتب صحفي تونسي. صدر له العديد من المقالات في مواقع وصحف إلكترونية مختلفة. يعرّف نفسه بالقول: "إذا حكمت خيال الناس دنيا فإني يحكم الدنيا خيالي".