تشرشل والوجه الآخر لحضارة العنصرية

29 ابريل 2025
+ الخط -

لو قُدّر لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ونستون تشرشل، أن ينهض في القرن الحادي والعشرين ويرى بريطانيا وقد حكمها رجل ذو أصول هندية وبشرة سمراء، مثل ريشي سوناك (رئيس وزراء بريطانيا 2022- 2024)، لربما طالب بهدم مقرّ حكومته السابق "10 داونينغ ستريت" وإعادة الإمبراطورية إلى سابق عهدها!

ذلك "الهندي المتوحش"، كما وصفه تشرشل يوماً، بات يوقّع القوانين ويقود بريطانيا بثقة، في صفعة ناعمة لعقلية استعمارية لم تتصوّر أنّ أبناء المستعمرات سيعودون يوماً، لا كطالبين للرحمة، بل كقادة، لا بسفنٍ حربيّة، بل عبر صناديق الاقتراع الغربيّة.

منذ نهاية القرن الثامن عشر، بدأت الإمبراطورية البريطانية في بسط نفوذها الاستعماري على مساحات شاسعة من العالم، شملت الهند والصين وبلادا واسعة من العرب، بدافع اقتصادي واستعلاء ثقافي وعنصري.

وقد مارست بريطانيا سياسة استعمارية قائمة على الهيمنة والاستغلال، مع نظرة دونية واضحة تجاه الشعوب الأصلية، وهي نظرة تجلّت بأوضح صورها في مواقف وسلوكيات قادة مثل ونستون تشرشل، الذي يُحتفى به كبطل في الحرب العالمية الثانية، وينال جائزة نوبل للأدب! ويحتذي به قادة الغرب (اليمين المتطرف) بينما تُغفل الجوانب المظلمة من آرائه وسياساته العنصرية التي أودت بحياة ملايين البشر!

لم تكن حقوق الشعوب ولا حريتها من أولويات البريطانيين، بل كان الهدف السيطرة الاقتصادية والسياسية

كانت الهند، "جوهرة التاج" المُستنزَفة، أهم وأكبر المستعمرات البريطانية، وقد تعاملت معها (بريطانيا) كمصدر للموارد الخام واليد العاملة الرخيصة، وتجاهلت طموحات الشعب الهندي في الحرية والمساواة، وأجبرت الهنود على زراعة محاصيل للتصدير؛ كالأفيون والقطن، بدلاً من الغذاء، ممّا ساهم في مجاعاتٍ مدمّرة.

كان تشرشل يعتبر الهنود "شعباً دونياً"، يقول في اقتباسه الشهير: "أنا أكره الهنود.. إنهم شعب متوحش بدين متوحش". كما كان يرفض أيّ فكرة للمساواة بين البريطانيين وشعوب المستعمرات، وكان من أشدّ المعارضين لاستقلال الهند، حتى بعد أن أصبحت المطالبة به مطلباً شعبياً عالمياً، قال ذات مرّة: "ستكون مأساة وإهانة لا تُغتفر أن نترك الهند تحكمها عصبة من البراهمة"!

وقد كان له دورٌ في تفاقم المجاعة البنغالية عام 1943، والتي راح ضحيتها ما يقارب ثلاثة ملايين شخص، بعدما رفض تحويل شحنات غذائية للهند، مدّعيًا أنّ "الهنود يتكاثرون كالأرانب"!

أما في الصين، فقد مارست بريطانيا سياسة عدوانية مدمّرة وعنصرية، في القرن التاسع عشر، وفرضت عليها تجارة الأفيون من الهند لتغطية عجز الميزان التجاري، وعندما حاولت السلطات الصينية الحدّ من هذه التجارة التي دمّرت نسيج المجتمع، خاضت بريطانيا حروب الأفيون (1839-1842 و1856-1860)، والتي أجبرت الصين على فتح موانئها والتنازل عن هونغ كونغ!

كان هذا التدخل نابعاً من قناعة بريطانيا بحقّها في "تحضير" الشعوب الأخرى، أي نشر الحضارة بالمفهوم الغربي، حتى ولو بالقتل والقوّة، فلم تكن حقوق الشعوب ولا حريتها من أولويات البريطانيين، بل كان الهدف السيطرة الاقتصادية والسياسية، بغضّ النظر عن الأثر التدميري لهذه السياسات. فما أشبه حضارة بريطانيا في الصين والهند بحضارة أميركا في العراق وأفغانستان اليوم!

مارست بريطانيا تشرشل سياسات استعمارية في الأردن والعراق وفلسطين ومصر والجزيرة العربية، متجاهلة تطلعات الشعوب، ومستخدمة سياسة "فرّق تسد" لتعزيز سيطرتها

ومع بداية القرن العشرين، وبعد انهيار الدولة العثمانية، وجّهت بريطانيا أنظارها نحو العالم العربي، ورغم وعودها بدعم الاستقلال العربي مقابل الثورة على العثمانيين، سرعان ما نكثت العهد وخانت الوعد، وشاركت بتقسيم الوطن العربي بينها وبين فرنسا في اتفاقية سايكس-بيكو 1916.

لقد مارست بريطانيا تشرشل سياسات استعمارية في الأردن والعراق وفلسطين ومصر والجزيرة العربية، متجاهلة تطلعات الشعوب، ومستخدمة سياسة "فرّق تسد" لتعزيز سيطرتها، وفي فلسطين، دعمت وعد بلفور عام 1917 لإقامة وطن قومي لليهود، من دون مشاورة الشعب الفلسطيني أو العرب.

تشرشل لم يكن يقتصر في عنصريته على الهند، بل شملت مواقفه العرب، فوصف شعب السودان بـ"البرابرة"، وبررّ حقّ استخدام الغازات السامة ضدّ ما يسميهم "القبائل المتوحشة" في العراق عام 1920، بشكل يعكس نظرته الإمبريالية المتغطرسة، وكان تشرشل يؤمن، بتفوق العرق الأبيض، وبأنّ الشعوب غير الأوروبية، شعوبٌ متخلّفة، لا تستحق حكم نفسها!

أزمة أخلاقية في منظومة الجوائز العالمية التي كثيراً ما تُستخدم لتلميع رموز الاستعمار والعنصرية

وتحوّل تشرشل إلى رمزٍ سياسي لشرف الغرب وتاريخه، حتى أنّ جورج بوش الابن وخلال إعلانه الحرب على العراق عام 2003م وضع تمثالاً صغيراً لتشرشل على طاولة الرئاسة، في رسالة ضمنيّة أنّ سياستنا العنصرية في الشرق لها موروث تاريخي من "بطل" بريطانيا "تشرشل"! 

في عام 1953، حصل تشرشل على جائزة نوبل في الأدب، تكريماً لما سُمّي بـ"أسلوبه الخطابي ودفاعه عن القيم الإنسانية السامية"، قد يبدو الأمر سريالياً؛ أن يُكرّم رجل ذو سجل استعماري دموي، بجائزة يُفترض أنها تمثل قمة ما أنتجه الضمير الإنساني من فكر وأدب وسلام!

هذا التناقض يكشف أزمة أخلاقية في منظومة الجوائز العالمية التي كثيراً ما تُستخدم لتلميع رموز الاستعمار والعنصرية. فكيف يمكن الجمع بين "القيم الإنسانية" وشخصية لم تتورّع عن التسبّب بمآسٍ جماعية بحق شعوب بأكملها؟

في السردية الغربية، يُصوَّر تشرشل كبطل الحرب العالمية الثانية، ورمزاً للثبات والانتصار، لكن في ذاكرة الشرق، يُستحضر بوصفه عنصرياً جسّد أبشع ممارسات الاستعمار وإبادة الشعوب، ومع تزايد الدعوات لإعادة النظر في التاريخ من منظور الشعوب المستَعمَرة، يصبح من الضروري مساءلة الشخصيات التي صنعت "المجد" على حساب الملايين من الضحايا! ويتوجّب على بريطانيا والغرب إعادة قراءة تاريخهما، لا من منظور المُنتصر، بل من زاوية الضحية التي عانت الويلات باسم "قيم الحضارة" الغربية المزعومة!

ياسر قطيشات
ياسر قطيشات
باحث وخبير ومؤلف في السياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية، من الأردن.