ترامب يعيد رسم خريطة العالم

18 مارس 2025
+ الخط -

مع بداية الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، دخل العالم في مرحلة جديدة من التحولات الجيوسياسية، إذ تشهد أوروبا تغييرات استراتيجية واسعة، وتعيد تحديد حلف الناتو أهدافه في ظل واقع دولي مضطرب. وفيما يبدو أن العالم يتجه نحو تشكّل ثلاث قوى رئيسية- أميركية وروسية وصينية، إلا أن هذا التوازن الجديد قد لا يستقر، بل قد يفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والصراعات، لتتكيف كل منطقة وفق معطياتها الخاصة مع النظام العالمي المتغير.

لم يكن أحد يتوقع أن يحدث ترامب مثل هذا الشرخ العميق في أسس النظام العالمي، ولا أن تمتد تداعيات سياسته إلى هذا الحد، خصوصًا في أوروبا، إذ بات القادة الأوروبيون في مأزق استراتيجي غير مسبوق: بين الحاجة إلى الحفاظ على التحالف مع واشنطن، والرغبة في تحقيق استقلالهم العسكري.

في السابق، كانت إدارة الرئيس بايدن تقدم الدعم العسكري لأوكرانيا بسخاء، مطمئنةً الحلفاء الأوروبيين بأن المظلة الأميركية تحميهم، وأن الناتو سيظل مدعومًا بالاستخبارات والتكنولوجيا العسكرية الأميركية. إلا أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض غيّر كل شيء. وجد الأوروبيون أنفسهم في مواجهة رئيس أميركي لا يكترث بالأعراف الدبلوماسية، يدير السلطة بأسلوب رجل الأعمال الصارم، ويطالبهم برفع إنفاقهم الدفاعي، معتبرًا أن أميركا ليست "وصية" على أمن أوروبا.

العقيدة الترامبية، التي تهدف إلى "إحياء الحلم الأميركي"، لا تقتصر على السياسة الخارجية فحسب، بل تشمل إجراءات صارمة في مجالات الهجرة والتجارة

لم تقتصر تداعيات هذا التحول على الخطاب السياسي فقط، بل انعكست في قرارات عملية، كان أبرزها تغيير الموقف الأميركي من الحرب الروسية-الأوكرانية، إذ أوقفت واشنطن مساعداتها العسكرية لكييف، وقلّصت تعاونها الاستخباري معها. هذه الخطوة صدمت الحلفاء الأوروبيين، مما دفعهم إلى عقد اجتماعات طارئة بقيادة فرنسا، في ظل انشغال ألمانيا بأزماتها الداخلية، ونتج عن ذلك إقرار خطة لإعادة تسليح أوروبا، تضمنت تخصيص 800 مليار يورو لشراء الأسلحة، ومعظمها سيذهب إلى شركات أميركية، نظرًا لضعف القدرة الإنتاجية العسكرية الأوروبية مقارنةً بالولايات المتحدة وروسيا والصين.

في الوقت ذاته، برزت معادلة جديدة جعلت أوروبا الطرف الخاسر الأكبر، إذ أصبح عليها دفع ثمن إعادة تسليحها دون أن تتمكن من الاستقلال عن النفوذ الأميركي، سواء في السلاح أو الاستخبارات أو أنظمة المراقبة. كما برز تحدٍ آخر، وهو استغلال الولايات المتحدة موارد أوكرانيا النادرة لتعويض تكاليف الدعم العسكري السابق، في خطوة تعكس بوضوح الطبيعة البراغماتية لسياسات ترامب.

لكن الأزمة الحقيقية التي تؤرق القادة الأوروبيين هي أن العالم دخل مرحلة غير مسبوقة من الغموض وعدم اليقين. فلا أحد يعلم على وجه الدقة ما الذي يخطط له ترامب، إذ يتخذ قرارات متسارعة تتجاوز الأعراف الدبلوماسية والاقتصادية، واضعًا مبدأ "أميركا أولًا" فوق كل اعتبار. وخلال 40 يومًا فقط، أصدر 79 أمرًا تنفيذيًا، أي ما يعادل ما أصدره بايدن خلال عامه الأول، مما يعكس استراتيجيته القائمة على إحداث تغييرات جذرية في النظام العالمي.

هذه العقيدة الترامبية، التي تهدف إلى "إحياء الحلم الأميركي"، لا تقتصر على السياسة الخارجية فحسب، بل تشمل إجراءات صارمة في مجالات الهجرة والتجارة، مع فرض رسوم جمركية على دول مثل كندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي. والنتيجة؟ اضطراب الأسواق، تسريح العمال، وزعزعة استقرار الأنظمة السياسية في مختلف أنحاء العالم، بينما تستمر أميركا في ترسيخ موقعها بوصفها قوة عالمية لا يمكن الاستغناء عنها، حتى وسط الفوضى التي ساهمت في خلقها.