ترامب و"التفكير خارج الصندوق"
بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولايته الثانية تماماً كما بدأ ولايته الأولى، بإثارة الفوضى. ولكن عند التعمّق أكثر، يمكن تقسيم هذه الفوضى إلى شقين: فوضى داخلية، تشمل الأوضاع داخل الولايات المتحدة وفريقه الإداري، وفوضى خارجية، تتجلّى في علاقات أميركا بمحيطها القريب والبعيد، وكذلك بالهيئات والمؤسّسات الدولية.
في ولاية ترامب الأولى، تجلّت الفوضى الداخلية في خلافاته المستمرة مع فريقه الإداري، حيث سبق أن نعت وزير خارجيته السابق، ريكس تيلرسون، بـ"الأحمق" قبل أن يقيله عام 2018. كما أقال وزيرين للدفاع، ومستشاره للأمن القومي، ووزير العدل، وغيرهم من المسؤولين البارزين.
أما على الصعيد الخارجي، فقد تمثّلت الفوضى في انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، والاتفاق النووي مع إيران، ثم لاحقاً من منظمة الصحة العالمية. كما توتّرت العلاقة مع كندا بسبب الرسوم الجمركية، وهاجم دول حلف الناتو مراراً مطالباً إياهم بدفع المزيد من المساهمات. بالإضافة إلى ذلك، هدّد رئيس كوريا الشمالية بـ"النار والغضب" قبل لقائهما عام 2018. ولم تكن علاقاته مع الصين وروسيا وفنزويلا أفضل حالاً، إذ شهدت توتراً مستمراً طوال فترة ولايته.
أما في ولاية ترامب الثانية، فيبدو واضحاً أنّه تمكّن من ضبط الإيقاع على الصعيد الداخلي، ممّا أدى إلى تقليل الفوضى الداخلية، وذلك عبر اختيار شخصيات على أساس الولاء المطلق، ولو كان ذلك على حساب الكفاءة. ويتجلّى ذلك في تصريحات وزيري الخارجية والدفاع، اللذين يكرّران ما يقوله ترامب بغضّ النظر عن مدى معقولية تصريحاته أو جدّيتها، وهو ما كان غائباً خلال ولايته الأولى.
تقوم سياسة ترامب على إحداث صدمات سياسية متكرّرة لإعادة تشكيل المعادلات وفق رؤيته الخاصة
باستثناء ما يقوم به إيلون ماسك ووزارته، بالإضافة إلى موقف ترامب من حاكم المصرف المركزي ومحاولاته للضغط عليه لخفض الفائدة بوتيرة أسرع، تبدو الفوضى الداخلية في أدنى مستوياتها. وهذا سمح لترامب بالتركيز بشكل أكبر على الفوضى الخارجية، والتي تجلّت في تصريحاته حول ضم كندا وجعلها الولاية الحادية والخمسين، بالإضافة إلى الضغط على الدنمارك لبيع جزيرة غرينلاند لأهميتها في ما يخص لأمن القومي الأميركي، وكذلك السعي للاستيلاء على قناة بنما بحجة أنّ الأميركيين الذين ساهموا في حفر القناة لم يحصلوا على تعويض مناسب. أما في ما يتعلّق بغزّة، فقد جاءت تصريحاته متخبّطة، فتارة يدعو إلى نقل سكان القطاع لإفساح المجال لإعادة بنائه، وتارة أخرى يقترح إعادتهم بعد ذلك، أو الضغط على الدول العربية لمنح أجزاء من أراضيها لإسكان سكان غزّة.
وضمن سياق الفوضى الخارجية، واصلت الولايات المتحدة نهجها في الانسحاب من مختلف الهيئات والمؤسّسات الدولية، تماماً كما حدث في ولاية ترامب الأولى. لكن هذه المرّة، أضافت إلى ذلك فرض عقوبات على محكمة العدل الدولية، بالإضافة إلى معاقبة جنوب أفريقيا بسبب موقفها من إسرائيل.
سياسة "الفوضى البناءة" أو صناعة الأزمات للتحكّم فيها ليست جديدة في السياسة الأميركية، فقد سبق أن استخدمها الرئيس ريتشارد نيكسون فيما عُرف بـ"نظرية المجنون"، حيث تبنى استراتيجية تهدف إلى جعل الخصوم يعتقدون أنه "غير متوقع" أو "غير متزن"، مما دفعهم إلى توخي الحذر في التعامل معه. ويبدو أنّ هذه المقاربة تتجلّى بوضوح في سياسة ترامب الحالية، التي يُطلق عليها "التفكير خارج الصندوق"، والتي تقوم على إحداث صدمات سياسية متكرّرة لإعادة تشكيل المعادلات وفق رؤيته الخاصة.