تجييش الجمهور ما بين الضرورة والاندفاع
يقول الباحث السوري جاد الكريم جباعي: "الحقيقة مفهوم مراوغ أشدّ ما تكون المراوغة، لا لتعدّد دلالاتها وتنوّعها واختلافها وغموضها وتغيّرها من مكان إلى آخر ومن وقت إلى آخر، ولا لكونها ممكنة على الدوام.. بل لشدّة مراوغة الناس حيالها وزوغهم عنها وخوفهم من مواجهتها، على ادّعاء حبّهم لها، وتعلّقهم بها، ونشدانهم إياها وذودهم عنها".
تناسبًا مع المقدّمة ينبغي التوضيح أنّ التجييش كفعلٍ سلطوي يأخذ مسارين مُتناقضين بين الجمهور العام الذي تحوّل إلى فريقين متطرّفين في الخيارات، يفضيان إلى مواجهة حتمية. ومهما بدت هذه المواجهة مفهومة، أو ظنّ البعض أنها محدودة الأثر، إلا أنها تزيد من حدّة الانقسام المجتمعي وتفرز الجمهور إلى قطبين أحاديين لا تنفع الوساطة بينهما، كما لا يمكن الوصول إلى منطقة وسطى بينهما. فالكلّ أعداء ما لم يصمتوا أو يلتزموا بالخطاب العام المفروض والمعمّم من أصحاب السلطة. لا بل قد تبدو السلطة في بعض الأحيان أكثر مرونة وانفتاحًا على سردية مختلفة، أو على طريقة تناول ومقاربة مختلفة، أو على الأقل قد تقوم بالمناورة (ولو الشكلانية) لتبدّد حدّة الاستقطاب في محاولة لإثبات مرونتها وانفتاحها على الجميع. وهنا يمكن تشبيه الحالة الغوغائية المستنفرة إلى درجات قصوى بحكايتين شعبيتين، يمكن تلخيصهما بالتالي: "إجا للعميان صبي مفتح عموا له عيونه من كتر اللحمسة"، و"بعرف ابني عاطل بس أنا وحدي من تشتمه".
لا يكفي أن يكتب أحدهم عن حادثة دموية حصلت. بل عليه إثبات الواقعة وذكر أسماء القتلى وأعمارهم وشهادات الوفاة ومسار الجنازة! وهو مواطن عادي، مواطن يعرف القتلى، وربما هم جيرانه أو أقرباؤه. تخيّلوا سيدة تطالب سيدة أخرى بإبراز صورة الجثّة لشخص كتبت تلك السيدة أنه قد قتل!
يغالي الحسّ أو الوجدان الشعبي بطلبات لا تنتمي لتوصيفه جمهورًا، ويتحوّل الجمهور العام إلى محقّق وقاض في الوقت نفسه، كما يسمح لنفسه بطلب إظهار صورة جثّة على وسائل التواصل الاجتماعي للتأكّد كي يصدّقك الرافضون مُسبقًا وبإصرار لتصديق روايتك ورواية غيرك. والحقيقة أنّ رواية سواهم مرفوضة بالمطلق ما لم تمرّ من بين أصابعهم، وبرعايتهم المطلقة، وصياغتهم النمطية الأحادية والقطعية.
الكل أعداء ما لم يصمتوا أو يلتزموا بالخطاب العام المفروض والمعمّم من أصحاب السلطة
يطالب بعضهم مُشكّكًا بتوضيح يظنّك تفتقده، متأكّدًا أنه، وببديهية عالية، اكتشف حقيقة مزاعمك، حقيقة كذبتك غير المسؤولة، عندما تكتب مثلًا، عن حادثة قتل "قُتلوا وهم يحصدون موسم قمحهم"، ليكتب فورًا وبصورة لطيفة لكنها اتهامية وحاسمة: "لكن في الساحل لا يزرعون القمح!".
يا ويلنا! علينا هنا بالذات الاستنجاد بخبير زراعي محلّف ليثبت حجم محصول القمح في الساحل، وأماكن زراعته ومردوده، وألف نقطة هدفها الوحيد نفي امتلاك أحد للحقيقة سوى الجمهور "المجيَّش" ضدّ شركائه من دون تكليف رسمي بهذه المهمّة، لكن بصيغة مبطّنة. فإنّ تجييشه ضدّ سواه يعني له الالتزام بالواجب الوظيفي للمواطن الوطني الصادق والغيور على الحقيقة وعلى مصلحة الوطن الذي يعتبر نفسه حامي حماه الأوحد! هنا، ينبغي علينا تحمّل التشكيك بابتسامة بلهاء، منكسرة، مع شعور عارم بالخجل لأننا لا نكذب وحسب، بل وقد جاء فورًا، وببساطة متناهية، من يلتقط ويكتشف كذبنا، وبالتالي علينا تحمّل وصمة الخيانة ووصمة محاولاتنا غير البريئة لزعزعة الأمن المجتمعي وتعريض وحدة البلد للخطر.
في المراحل الانتقالية الحسّاسة، يتعلّق الناس بالحقيقة، ليس فقط لتعميمها وتشاركها مع أصحاب الأرض، بل ويتعلّقون بها إلى درجة التنازع، فقط لإثبات الأحقية في السيطرة، أو في الاستمرار أو في تثبيت حقوق حصرية، لا تشمل الجميع. وتغييب الشمولية هنا ليس تلاعبًا بالحقيقة في حدّ ذاتها فحسب، بل محاولة للتفرّد بها، ومعاقبة الآخرين بحرمانهم من الاندماج فيها.
عندما يختلط السعي المحموم للزود عن حقيقة محدّدة مطلوب تثبيتها لوحدها من دون سواها، مع الخوف من مواجهتها والإصرار على ردع الداعين للتحقّق منها، يغدو التجييش سلاحًا مراوغًا، إقصائيًا وشعبويًا.