تجربة مختلفة في الغضب للدين (1/2)

تجربة مختلفة في الغضب للدين (1/2)

02 نوفمبر 2020
+ الخط -

قل لي بالله عليك، هل سمعت عن محاولات لحرق مسرح في شارع برودواي الشهير في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية لأنه عرض مسرحية تسيئ إلى السيدة مريم العذراء؟ هل قرأت عن سيل من البلاغات ينهمر على القضاء الأميركي يطالب بوقف مسرحية تسيئ إلى المسيحية؟ هل رأيت على الإنترنت فيديو كليب لمتظاهر يحتج على عرض مسرحية تزدري الكاثوليكية وهو يمسك بمطواة يهدد بها ممثلي المسرحية بأنه سيقوم بطعنهم في مؤخراتهم قبل أن ينظر إلى الكاميرات ويقول "آي غيف ماي سيلف تو جيسس كرايست يا سنز أوف بيتشز".

أنا شخصياً لم أسمع عن شيء من ذلك أو غيره حدث في مواجهة مسرحية تحمل عنوان (The Testament of Mary ـ شهادة مريم العذراء)، كنت قد حضرت عرضها بنيويورك مطلع عام 2013، والتي قدم كاتبها الأيرلندي كولم توبلين رؤية مختلفة لحادث صلب السيد المسيح، بطريقة وصفها المعارضون للمسرحية بأنها "كفرية وصادمة وجارحة لمشاعر المؤمنين الكاثوليك"، ومع ذلك فإنني طيلة إقامة في نيويورك دامت شهراً كاملاً كان بالمصادفة عمر المسرحية، لم أسمع عن ردود أفعال عنيفة أو جنونية تعرضت لها المسرحية المسيئة للمسيحية.

كنت قد حددت المسرحيات التي سأذهب لمشاهدتها خلال إقامتي، ولم تكن تلك المسرحية من بينها، برغم أنّ عدداً من الأصدقاء نصحني بمشاهدتها بعد أن حدثوني عن وجود مطالبات بإيقافها، لكنني بعد أن قرأت بعض عروضها النقدية لم أجد نفسي مهتماً بمتابعتها، إلى أن قال لي قبل سفري صديق نيويوركي مهتم بالمسرح إن المسرحية ستغلق بعد ثلاثة أيام، فأخذت أسئلتي تتلاحق عليه: "لماذا هذا القرار المفاجئ؟ لقد شاهدت حملة إعلانية مكثفة كانت توحي بأنّ المسرحية ستستمر على الأقل حتى نهاية موسم الصيف؟ هل تلقى فريق العمل تهديدات بالقتل تجبرهم على إغلاق المسرحية؟ كيف لم أقرأ عن ذلك في الصحف؟ وما هو سبب إغلاق مسرحية بدأت منذ أسبوعين فقط؟"، فاكتفى برد وحيد: "شاهد المسرحية بنفسك وستعرف".

أخذت أبحث عن معلومات أكثر حول سر إغلاق المسرحية، فقرأت عن مظاهرة أقيمت أمام مسرح "وولتر كير" الذي كانت تُعرض عليه في ليلة افتتاحها، شارك فيها طبقاً لصحيفة "صنداي تايمز" خمسون متظاهراً فقط، رفعوا لافتات غاضبة منضبطة تقول عبارات من نوعية: "أوقفوا الكفر بحق إلهنا الآن ـ تقربوا إلى الله بالاحتجاج على هذا الكفر"، نظمت المظاهرة مؤسستان كاثوليكيتان في ولاية بنسلفانيا سبق أن قادتا الاحتجاجات من قبل على فيلم "شيفرة دافينشي" بالإضافة إلى تنظيم فعاليات ترفض قرارات دعم الإجهاض وتوزيع حبوب منع الحمل على طالبات المدارس الثانوية، كانت تلك المظاهرة الوحيدة ضد المسرحية، وقد انفضّت بعد ساعات من إقامتها، ولم يعلق فريق المسرحية عليها، بل أصدروا بياناً يؤكد احترامهم لحق المعترضين في التعبير عن آرائهم ويطلبون منهم حضور المسرحية التي وصفوها بأنها ستدافع عن نفسها ضد أي إتهامات.

لم أجد فيما قرأته تفسيراً لسر إغلاق المسرحية المبكر برغم كل ما يقال عن تجاوزها لكل الخطوط الحمراء، وهو ما جعل بعض النقاد يتوقعون لها نجاحاً تجارياً بسبب الجدل الذي ستثيره، لكن النجاح التجاري لم يتحقق برغم الاحتفاء النقدي بالمسرحية وبرغم حملة الدعاية الضخمة وهو ما أدى إلى خسائر مادية للمنتجين جعلتهم يتخذون قرار إغلاق المسرحية بعد 27 عرضاً تجريبياً و16 ليلة عرض رسمية فقط، وهو رقم يعتبر مخجلاً لأي مسرحية حتى لو كانت تعرض خارج برودواي، فما بالك بمسرحية تُعرض على واحد من أكبر مسارح برودواي، ومما زاد الطين بلة أنه عندما تم، في مطلع مايو/ أيار، إعلان ترشيحات "توني أووردز" أشهر جوائز المسرح في العالم، وتم ترشيح المسرحية لجوائز أفضل مسرحية وأفضل نص وأفضل ممثلة، لم يحدث أي انتعاش في الإيرادات يدفع المنتجين للتراجع عن موعد الإغلاق المبكر للمسرحية، وهو ما جعلني أشك أكثر في أسباب الإغلاق وأحرص على الذهاب لحجز تذكرة قبل إغلاق المسرحية.

عندما اقتربت من المسرح وجدت جمعاً حاشداً أمامه، فتوقعت أن يكون تجمهراً لمظاهرة تبارك إغلاق المسرحية أو تحتج على إغلاقها دون حساب ولا عقاب، فضحكت وأنا أسأل نفسي ساخراً: متى سيبدأ تساقط كسر الرخام بالقرب مني، لكني مع اقترابي من الحشد لم أسمع حتى أصوات هتافات ولم أر لافتات مرفوعة، ليتضح أنّ المتجمهرين ليسوا سوى رواد المسرح الذين أقبلوا على المسرح عندما سمعوا بخبر قرب إغلاقها.

بعد أن لحقت بالعافية آخر تذكرة في عرض الغد، سألت موظف شباك التذاكر عن صحة أنباء قرب الإغلاق، فرد عليّ بحزن "للأسف هذا صحيح"، قربت رأسي من الشباك وسألته: "هل تلقيتم تهديدات بتفجير المسرح، أرجوك صارحني ولا تقلق فقد اشتريت التذكرة فعلاً ولا أنوي إعادتها، أنا فقط أسأل لأني كاتب من مصر وأريد أن أفهم سر إغلاق المسرحية"، سحب الرجل زفرة عميقة وقال لي: "هل تعتقد لو كان هناك تهديدات أننا سنعرّض أحداً من الجمهور للخطر وحتى لو كنا أغبياء وقررنا ذلك هل تعتقد أنّ أحداً سيسمح لنا بأن نفعل ذلك"، قلت له: "إذن لماذا الإغلاق المبكر؟"، رد عليّ بأسى: "ليس سوى الحظ السيئ"، ثم قال بجدية: "أرجو ألا تتأخر على موعد بدء المسرحية لأننا لا نسمح بالدخول المتأخر للجمهور أياً كانت المبررات".

لم يبدُ لي أنّ هناك تشديدات أمنية بالقرب من المسرح يومها، ولا في اليوم التالي الذي حضرت فيه المسرحية، ولم أتعرض للتفتيش في مدخل المسرح، برغم أني كنت أحمل كيساً به كتب قديمة لم أقاوم إغراء شرائها وأنا ذاهب إلى المسرح، مع أن تفتيش الحقائب أمر متعارف عليه في مسارح برودواي خصوصاً وأنّ أسبوعين فقط كانا قد مضيا وقتها على تفجيرات ماراثون بوسطن الإرهابية المنحطة.

لا أعتقد أنّ المسيحية هي أم الشرور في العالم، ولا أعتقد أنّ الإسلام أو اليهودية أو أي دين هو أساس الشرور في العالم، صدّقني الغباء هو أساس الشرور في العالم كله

وصلت إلى المسرح قبل نصف ساعة من موعد بدء المسرحية، كان الكرسي الذي وجدته في الطابق العلوي من المسرح (الميزانين)، اندهشت عندما رأيت من موقعي في الأعلى عدداً كبيراً من جمهور الصالة يصعد على خشبة المسرح، فظننت أنه جزء من جمهور غاضب قرر أن يصعد إلى الخشبة لتحطيم الديكور، لكني لم أجد المشهد ملفتاً لأحد غيري، دققت النظر فوجدت أنّ الجمهور يتناوب الصعود على الخشبة ليطوف بتمثال لمريم العذراء تم نصبه في وسط المسرح، سألت جاري العجوز الوقور عما يحدث فقال لي إنهم منذ قليل أعلنوا للجمهور أنه يمكن لمن أراد أن يصعد لتفقد ديكور المسرحية، على أن لا يطيل البقاء على خشبة المسرح ويترك الفرصة لغيره، ثم أضاف مازحاً: "بالطبع هذه خدمة مقدمة فقط للأغنياء القادرين على دفع ثمن التذاكر الغالية ولن نستطيع نحن فقراء الميزانين أن نستفيد من هذه الخدمة".

شجعتني مودته على أن أسأله عن ديانته، فقد كنت راغباً في معرفة طبيعة الجمهور الراغب في حضور العرض بعد كل ما كتب عنه، بدت على وجهه تقطيبة وأجاب عن سؤالي بسؤال: "من أي بلد أنت ياعزيزي"، قلت "من مصر"، وقبل أن أشرح له سر سؤالي بادرني بقوله "ليس مستحباً أن تسأل الناس عن ديانتهم فهذا أمر شخصي جداً"، شرحت له سر سؤالي فقال لي: "حسناً، دعني أقل لك إنني كنت كاثوليكياً"، قلت متسائلاً: "كنت؟"، قال ضاحكاً: "لست متأكداً بعد ما إذا كنت قد فقدت إيماني كاملاً أم لا".

شجعني لطفه على مزيد من الفهم فسألته: "كنت قد قرأت في صحيفة (وول ستريت جورنال) نقداً للمسرحية يصفها كاتبه بأنها إنجيل الكافرين بالكاثوليكية ويقول إنه إذا كنت من الذين يعتقدون أن المسيحية أم الشرور في العالم ستعجبك هذه المسرحية مارأيك في كلام كهذا؟"، قال وهو يهز رأسه: "لا أستغرب أن أقرأ ذلك في صحيفة يملكها أحمق مثل روبرت ميردوخ، يعني أنا لم أعد متديناً كما كنت من قبل، لكني لا أعتقد أنّ المسيحية هي أم الشرور في العالم، ولا أعتقد أنّ الإسلام أو اليهودية أو أي دين هو أساس الشرور في العالم، صدّقني الغباء هو أساس الشرور في العالم كله، بماذا ستستفيد البشرية منك لو كنت ملحداً وغبياً في نفس الوقت؟".

أخذت أهز رأسي معجباً بكلامه وأنا أهنئ نفسي على حظي السعيد غالباً فيمن أجاورهم في العروض الفنية ومقاعد الطائرات، قلت له: "عندما قرأت عن إغلاق المسرحية مبكراً ظننت أن هناك حملات من الكنيسة الكاثوليكية ضدها لكني فوجئت أنّ السبب هو تدني الإقبال عليها ثم عندما جئت بالأمس وجدت المسرح ممتلئاً وها هو اليوم أيضاً ممتلئ عن آخره"، قال: "هذا بفعل الغباء الذي كنت أحدثك عنه، هل ترى الجالسين إلى جواري، سمعتهم يقولون إنهم جاؤوا إلى المسرحية بعد أن قرأوا عن حملات تطالب بمقاطعتها"، ثم ضحك وأضاف: "هل تعلم أنّ ما شجعني على المجيئ من ولاية كونيتكيت لمشاهدة المسرحية أنّ أحد أصدقائنا أرسل إلى زوجتي المتدينة جداً بريداً إلكترونياً يدعوها للمشاركة في حملات لمقاطعة المسرحية وإرسال رسائل إلى منتجيها للاحتجاج عليها"، قلت مداعباً: "هل أفترض أنك جئت إلى هنا بدون علم زوجتك؟"، فردّ بعد ضحكة مدوية: "قد أكون شجاعاً لكي أجازف بإغضاب الرب مني، لكني لست أحمق لأجازف بإغضاب زوجتي".

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.