Skip to main content
تجانس

مدونة عامة

خالد موقدمين

تأخر عن عرض العاشرة لفيلم كان ينتظره في السينما، كان في مقهى قريب من القاعة، يستمتع بكأس من الشاي التقليدي على نغمات موسيقى لم يعرف من يغنيها آتية من التلفاز فوق رأسه. كان يتساءل مع نفسه لماذا يحب أن يشاهد الأفلام وحيدا في السينما، هل ليمعن النظر في المكونات الفيلمية، أم ليكون وحيدا ببساطة، لم يقنع نفسه بأي شيء، ولم يحاول حتى. كان في عمقه متأكدا أن الوحدة لها طعم خاص، طعم متميز لا يشعر به إلا الناس الذين يشبهونه في قيمه وأفكاره العجيبة.

لم يكن صوته مسموعا حتى لنفسه، كان صامتا، وكأن الصمت هي لغته الوحيدة التي يتكلم بها، يعبر بها وينقل بها أحاسيسه الدفينة للعالم الذي يراه متناقضا. كان غافلا عن كل ما يحدث من حوله، لا يبدي رأيا ولا يقدم نصيحة، حتى إنه لا يتذكر أن هذا اليوم هو عيد ميلاده الثالث والأربعين. كانت رنات التلفاز من فوقه تزعج سكونه، كان دوما يحب أن يتأمل الناس في الطريق، وهم يمشون مسرعين، يحب أن يحللهم وفقا لملامحهم ولعناصر أخرى.

رشف من كوبه رشفة صغيرة من كأس الشاي الذي يعشقه بنكهة النعناع، ونظر إلى الموجودين في المقهى من حوله، كانوا يتهامسون بصوت عالٍ، تساءل عن ماذا يتكلمون، عن الحياة، أم عن الموت، عن الحب أم عن الفراق، عن الأمل أم عن الخيبات. لم يسمع شيئا، البعض كان يضحك بصوت عالٍ، والبعض الآخر كان بئيسا مثله.

في الزاوية البعيدة، لمح شاباً وشابة، يبدو أنهما زوجان، كانا يرتديان معا خاتمي زواج، تساءل في نفسه باستغراب عن جودة بصره الذي يحملق جيدا بل بشكل ممتاز، وأحس بشظايا من السعادة تشق قلبه، ولو للحظات قصيرة، ابتسم برقة واستمر بالنظر إليهما. كان يحاول تحليل حبهما، كانا يتناقشان في موضوع يبدو أنه مهم من الوهلة الأولى، كانت الفتاة غاضبة قليلا، بينما الشاب كان هادئا، لم يكن يتكلم كثيرا، يسمع لها فقط وهو ينظر للأرض تارة ثم لعينيها تارة أخرى.

استرخى على كرسيه الخشبي ليتمكن من النظر إليهما جيدا حتى كاد يسقط على الأرض، تساءل في داخله، هل هذان الحبيبان يحبان بعضهما البعض، وأخذ يجيب نفسه بأجوبة ضائعة وهو يصيغ لنفسه تساؤلات أخرى، لماذا تصرخ في وجهه إذا كانت تحبه، هل هذا بدوره تعبير عن الحب، هل الحب معقد إلى هذه الدرجة، أم أننا من نعشق أن نعقد الحب ونجعله متناقضا ليتلاءم معنا؟ بدأ الشاب بدوره يصرخ بصوت عال، حتى إن جميع زوار المقهى بدأوا ينظرون إليهما. كانا جميلين حتى في صراخهما، كانا منسجمين حتى في الشجار، كسمفونية موسيقية غاضبة.

بدأت تبكي بكاء حادا لكن صادقا يطرب أذني الناس في المقهى، بكاء لطيفا حتى إن زوجها بدأ يبكي بدوره. فكر، وهو ينظر إلى كأس الشاي الفارغة التي بقيت فيها أوراق النعناع البالية فقط، أنهما ربما سيفترقان، هل فعل الزوج شيئا لها أم هي التي قامت بفعل شنيع ضده، لا يعرف الجواب ولن يعرفه مطلقا، لكن أمل أن يتصالحا.

أكمل النظر إليهما، كانا يهمان بالمغادرة، أراد أن يتبعهما، دفع ثمن الشاي، وبدأ بالمشي وراءهما. كانا يعانقان بعضهما البعض بشغف. فكر أن البشر مشدودون بالفطرة للفضول المخصص للحب، للغموض الذي يلف هذا الشعور الغريب. ها هو الآن يتبع زوجين في الطريق، يحلل تحركهما، وحركاتهما، ونظرات عيونهما معا، ابتسم لنفسه بصدق.

كان الزوج جامد الملامح لكن في الآن نفسه مليئا بمشاعر دفينة، هكذا فكر بعد تحليل دقيق له، بينما الشابة يمكن القول على عينيها بأنهما بحر من الأسرار. في المقهى، كانت تتشاجر بعينيها العسليتين أكثر من أي جزء في جسدها. كان هذا هو تفكيره الآن وهو يتبعهما بشغف، نسي تماما عيد ميلاده، وأنه وصل إلى مرحلة في الحياة تبدو مبهمة نوعا ما، له وللعالم.

فجأة، فقدا الاثنان القدرة عن التعبير، تجمدا في مكانهما، ونظرا للخلف نحوه، كانت الزوجة غاضبة أشد غضب.

كانت مخيفة، لوهلة قصيرة، ظن ذو الثالثة والأربعين أنه لن يصل إلى الأربعة والأربعين بعد نظرتها تلك إليه، كانت مرعبة، لم يعرف ماذا سيفعل، وقف أمامهما مشدوها، مترقبا، وخائفا.

أبقت الزوجة عينيها مثبتتين عليه، بينما زوجها كان ينظر إليها عن كثب باستغراب، لم يكن يعرف أن زوجته ستصل إلى هذا الحد من الغضب. لم يرها هكذا من قبل، فوجئ، تراجع للوراء وابتعد عنها بعجب، رأته زوجته يبتعد ثم ركضت خلفه مسرعة.

ظن أنهما عرفا أنه كان يتبعهما بطريقة ما، لماذا فعل هذا، لماذا تبعهما، هل سيفترقان هذه المرة، لماذا الزوج كان خائفا منها، هل وعدته أن تبتعد عن غضبها ذاك وتهدأ قليلا، هل أصبح هو السبب الآن في فراقهما، جرى بسرعة في اتجاههما لكن لم يكونا في الأنحاء، اختفيا فجأة بين شوارع المدينة الضيقة. حاول تحليل هذا المشهد السيريالي في عقله دون فائدة، وشعر بتأنيب ضمير صعب. أراد من كل قلبه أن يبقيا معا دائما، لم يكن يعرفهما أبدا، لكن ذلك لم يمنعه من أن يتمنى لهما كل السعادة. لطالما عشق الحب، لكن هذا الشعور دائما ما كرهه. كان الشارع خاليا من الناس، تمشى قليلا، ثم توجه لشقته الصغيرة، لم يكن في مزاج جيد لمشاهدة فيلم في هذا الوقت.

وجد نفسه في بيته وحيدا، هو يكره الوحدة، أراد الخروج فخرج.

في الشارع الخالي من أي بشر، جلس على الرصيف، منتظرا الفتاة لعلها تظهر على شكل معجزة، بقي هناك حتى الرابعة والنصف، ثم غادر.

بعد عشر دقائق، ظهرت الفتاة ووجدت الشارع خاليا بدورها، بقيت هناك عشر دقائق وغادرت... ربما إلى الأبد.