بين متاحف الأجداد وحتوف الأولاد!

04 نوفمبر 2025
+ الخط -

متحف مهيب يليق بحضارة عريقة، الحضارة بمعنييها؛ المُتجاوزة الإنسان إلى فنونه وعلومه وعمارته وإبداعه، والمُتجاوزة من الفن والعلم والعمارة والإبداع إلى الإنسان نفسه، وفي ذلكم روايات وحقائق، لا تنفي بمجملها عن المصري عظمة صنعه وبراعة يده، ولا تحجب عن الأفق شمس معرفته وإضاءته للأرض يوم كان فيها وحده أو مع قلّة نادرة حوله من حضاراتٍ أتت بعد مولده، فكان اجتماع تلك الآثار في مكان واحد ضرورياً، من نواحٍ بحثية وجمالية معاً، وتجاوزاً عن إنجاز ذلك من خلال قروض إضافية تتناوب فوق ظهر المواطن، الذي لا يطيق، ولو قشّة أخرى على كاهله، وتمنى لو كان "جده الأثري" عجوةً فيأكله حين تقرقر معدته كلّ ليلة. 

الجرم هنا ليس في علّة القروض كما كلّ مرّة، ولا الخطايا الفنية التي اعتاد الشعب عليها في محافل كثيرة، ولا الابتذال في حالة النشوة الوطنية إلى حدّ التمني لو عاد بعض طغاة الفراعنة بالسوط فعبدهم الملايين؛ وإنما في "التوظيف السياسي" لتلك المومياوات، لإحياء مومياوات أخريات. فبينما يغرق المصريون في اليم، ويستغيثون من العطش لتآكل حصّتهم، ويتضوّرون جوعاً من السنين العجاف التي زادت على سبع يوسف بخمس، ويبكون دماً من ظُلمات السجن وغياهب الزنازين المُتواصلة منذ أكثر من عقد، ويفقدون أولادهم يوماً بعد يوم في قوارب الموت أو فرُش المعتقلات أو برصاص المتجبرين، يطلّ المتحف كمحاولة المهتز لإيجاد جذر يتثبّث به، وأصل يدّعي الانتماء إليه، كأن القدَم منذ الأزل يمنحه صكّ البقاء للأبد، ولو أمعن النظر قليلاً لوجد في سيرهم أكثر من غيرهم عبرةً بأنّ كلّ من عليها فان، وأنّ الظالمين لمغرقون، وأنّ العمارة، الجميلة كالهرم أو القبيحة كالكباري، لا تمنح أصحابها حقّ أن يكونوا معمّرين أبداً.

يطلّ المتحف كانسجام طبيعي مع محيطه، ويحلّ ضيوفه كحالة شاذة على التاريخ والجغرافيا

يطلّ المتحف كانسجام طبيعي مع محيطه، ويحلّ ضيوفه كحالة شاذة على التاريخ والجغرافيا، فلا يعقل أن يجتمع ذلك "القبح" مع تلك الحضارة، ولا أن يتماشى التخلّف الذي جدَّ مع التقدّم الذي كان، ولا علاقة لتقدّم السنين بمدى تطوّر البني آدمين، فالإنسان مهما بالغ في تأخّر ولادته يظلّ مرهوناً لعقله لا لظروف عصره، فقد يكون حاكماً مُبصراً عاقلاً عادلاً جميلاً قبل خمسة آلاف سنة، وقد يكون عكس ذلك كلّه بعد آلاف السنين. فسبحان الخالق!

وبينما يحتفي الخلق بالمتحف الجديد، أفكّر بأماكن أخرى، فكّرت مثلاً بإمكانية تحويل زنزانة ضيّقة إلى متحف، كان ذلك في "تخشيبة" معهد أمناء الشرطة (زنزانة الإيراد المؤقّتة) بمجمع سجون طرّة شرق القاهرة، يوم خطّطت اسمي بزاوية حادة من مسبحتي، على جدار السجن، وقد كنت في التاسعة عشرة من عمري، وقلتُ لعله يبقى شاهداً يوماً، حين تغلق تلك السجون، ومن ظاهر أبوابها سكانها القدامى، وقد حُرّروا، وقد حُوّلت إلى متاحف يرى فيها الإنسان حقارة أخيه الإنسان، في عصر ما قبل الآدمية، رغم كونه في القرن الواحد والعشرين! على مقربة من تلك "المتاحف" المُعطّلة، التي ما زال يعذّب فيها ستون ألف إنسان حتى اليوم، يشهد العالم المُتحضّر افتتاح "المتحف المصري الكبير".