بين كرة القدم والأدب

بين كرة القدم والأدب

30 نوفمبر 2020
+ الخط -

من بديهيات العلم بالأمور لدى أهل الأدب، أن إبداع النصوص الأدبية هو من اختصاص فئة تجيد صياغة اللغة وفق قوانين مختلفة عن تلك التي يتعارف عليها الناس في تواصلهم اليومي. ويشتهر الفرد المنتمي إلى تلك الفئة بلقب الأديب؛ مختصا بنوع من الكتابة الإبداعية يصرف عبرها ملكته؛ فيكون شاعرا أو قاصا أو روائيا أو غير ذلك.

لكننا نقف أحيانا على أنواع من الخطابات وقد تحققت فيها بعض من الشروط الأدبية بالرغم من عدم انتمائها لأجناس الأدب المعروفة، و مثالها الأبرز تلك الإعلانات التي نشاهدها ونقرأها يوميا على وسائل الإعلام المختلفة.

وغير الإعلانات، يسجل المتابع لوسائل الإعلام الرياضية العربية تحول الخطاب فيها من نقل وتعليق موضوعي للأحداث والمباريات إلى استعراض للمهارات اللغوية والتعبيرية بين الصحافيين والمعلقين، ليحلق بعضهم عاليا في عالم الشهرة ويتابعهم الملايين.

ولعل من يهتم بأمر كرة القدم ومنافساتها في باقي الدول والقارات، يجد أن الصحافيين العرب لا يشكلون استثناء في ذلك، فقد سبقهم الأوروبيون واللاتينيون (أقصد من أميركا اللاتينية).

وهو مما يمنح الصحافة الرياضية شعبية كبيرة هناك. ففي إسبانيا مثلا تشهد المبيعات التي تحققها الصحف الرياضية اليومية على هذا الأمر. وتشكل أخبار كرة القدم حصة الأسد مما ينشر على صفحات تلك الصحف، يغطيها صحافيون بأعمدة يومية ومقالات، قبل أن يلتحق الكثير منهم مساء باستديوهات القنوات الإذاعية والتلفزية للتعليق على الأحداث والمباريات، يرافقهم في ذلك لاعبون سابقون اعتزلوا اللعب وتفرغوا للتحليل الكروي.

يذكرنا خورخي فالدانو بلكنته الإسبانية اللاتينية بالصحافي والأديب الأوروغواياني الراحل إدواردو غاليانو الذي فاق الجميع في أدبية أحاديثه عن عالم الكرة ولاعبيها

ومما يثير انتباه المتتبع لما يكتب أو يعرض على وسائل الإعلام الإسبانية تلك، تميز اللغة التي يستخدمها المشتغلون بها، والتي تتجاوز في تعبيرها عن المعاني النقل والوصف الموضوعيين إلى ما يشبه التعبير الأدبي، مستندة في ذلك إلى كثير من أساليب المجاز والاستعارة، وغيرهما من المحددات الأدبية التي يعرفها المهتمون. وقد لا يسعني المجال للإحاطة بالموضوع، مكتفيا بذكر مثال واحد، يعود لمعلق رياضي متعاون مع صحف وقنوات رياضية إسبانية، هو اللاعب الأرجنتيني السابق خورخي فالدانو، هذا الرجل الذي يبدع في تحاليله وتعليقاته لدرجة تجعلك تشك للحظة إن كان الأمر يتعلق بصحافي لا بأديب.

ومما أذكره له في أحد أحاديثه الذي يعود لأكثر من عقد ونيف من الزمان، وكان قد سئل فيه عن مواطنه الأرجنتيني ليونيل ميسي وهو في بدايات تألقه، أن أجاب مادحا إياه ومدللا على قوته البدنية قائلا: يمتلك ميسي رقبة مكتملة النمو، (tine un cuello muy bien desarollado). كناية عن قوته البدنية، عكس ما قد يوحي به قصر قامته أو ملامحه الطفولية.

ويذكرنا خورخي فالدانو بلكنته الإسبانية اللاتينية بالصحافي والأديب الأوروغواياني الراحل إدواردو غاليانو، الذي فاق الجميع في أدبية أحاديثه عن عالم الكرة ولاعبيها، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمارادونا. وقد عرف كلامه عن هذا اللاعب انتشارا كبيرا في الأيام الأخيرة وذلك بمناسبة رحيل نجم الكرة العالمي.

ونذكر مما قاله غاليانو -وهو كثير- معلقا على هدف لمارادونا أمام إنكلترا في مونديال 1986 بالمكسيك -وقد جاء كلامه في معرض التمجيد باللاعب الأرجنتيني وهدفه الجميل- ليعلن أن مارادونا قد ارتكب هدفا (cometió el gol)، و يقصد بذلك وقع الهدف على الإنكليز الذين كانوا حديثي العهد بمواجهة عسكرية مع الأرجنتين في جزر الفوكلاند.

لكن المبالغة في استدعاء اللغة الأدبية في مجال التعليق الرياضي قد تسقط  صاحبها أحيانا في محاذير ومشاكل عدة، وهو ما حصل مع صحافي إسباني خلال الأسابيع الماضية، حيث شبه لاعب برشلونة الشاب أنسو فاتي ذي الأصول الأفريقية بالغزال السريع، كما شبه خفته وركضه في الملعب بسرعة فرار بائع أفريقي يفترش الأرض بسلعته لحظة مداهمته من قبل الشرطة في محطات المترو وغيرها. وقد جر هذا التشبيه على الصحافي انتقادات واسعة من طرف زملائه الصحافيين ومن اللاعبين، كما وسمت تصريحاته بالعنصرية لترفع دعاوى قضائية ضده، ما اضطره لتقديم اعتذار رسمي للاعب متبوعا بسحب ما كتبه.

دلالات