بين ضحيّتين: إنسان ونقيضه

01 ديسمبر 2024
+ الخط -

حقيرةٌ غرائِزُنا، متوحّشةٌ... على النقيضِ منْ إنسانِنَا تماماً. لو انفلتَت لنهشَت؛ تتكشّفُ، نهّازَةً لأيّ فرصَةٍ، بوقاحةٍ وابتذالٍ مخجلَيْن. تجنَحُ لـ أناها (قُبحاً وكرهاً)، مهما تجمّلت بوجهٍ أكثرَ إيثاراً ومحبّة.

لكن الأحقر، والأشدّ رعباً ربّما، تجاهلنا لفطرتها تلك، عمداً أو عمى، والانسياق وراءها ولو على حساب الإنسان الذي نحن هنا لنكون، لا في صورته الأمثل والأنبل، إذ يشقّ هذا على غالبنا، إنّما في أصل تكوّنه وشروط وجوده الأولى، لا تضحيةً ولا نضالاً ولا إيثاراً أقصد، إنّما تجنّباً للمسخ الذي يسهل التحوّل له في اختبارٍ أو أكثر، سقوطاً واحداً أو تراكماً سقوطيّاً على امتداد العمر بتتابع الاختبارات.

وإذا كان النضال في وجه السلطة (أيّة سلطة) واجباً لتجنّب السقوط في وحل "التعريص" أو ما هو أقبح (يبدأ تجنّباً لأذى أو سعياً لكسب، وينزلقُ لبوقٍ يعبّئه صاحب الصوت الرسميّ بما أراد؛ فيخرج القول ونقيضه في ذات اللحظة)، والنضال في وجه "الجمهور" واجبٌ كذلك لتجنّب السقوط في وحل الشعبويّة والابتذال أو ما هو أقبح (يبدأ إرضاءً وينتهي بصاحب الرأي كراقصة التعرّي وهي تتلوّى وتخلع ملابسها قطعةً قطعة ليدفعوا أكثر بعد أن يهتاجوا أكثر)؛ فمقاومة النفس وغرائزها أوجب وأسبق، تجنّباً لانتصار "الحيوان/الوحش" الذي نحمله في أعماقنا، وننتصر أول ما ننتصر بحجم إقرارنا بوجوده وقدرتنا على امتلاك قياده.

النضال في وجه "الجمهور" واجبٌ لتجنّب السقوط في وحل الشعبويّة والابتذال أو ما هو أقبح

بين مشهدين كاشفين يمكن تصوّر الفارق بين الإنسان ونقيضه، الأوّل في فلسطين، قطاع غزّة تحديداً، وأهلها الواقعون تحت الإبادة للعام الثاني على التوالي والمحرومون شربةَ الماء والغطاء والحذاء بعد أن سُحقت حياتهم كلّها بناءً وحاضراً ومستقبلاً، لولا صمودهم وكرامتهم لانتفى مطلق وجودهم، لكن في اللحظة التي بدأت فيها اتفاقية وقف القتال بين المقاومة اللبنانية والعدوّ، وتتابعت مشاهد عودة النازحين إلى بيوتهم وقراهم في الجنوب الصامد، تجدهم (أهل غزّة) يحتفلون ويباركون ويوزّعون الحلوى (تحت القصف والموت) فرحاً لأنّ من تعرّض مثلهم للقتل وقدّم كلّ ما يملك، وزيادة، دفاعاً عنهم وإسناداً لهم، سيلتقط أنفاسه ويعود إلى دياره التي أُخرج منها، ولو أنه سيجدها حطاماً.

والثاني في مصر الغارقة في عفن الكراهية لا بين الضحايا (وهم غالب أهل البلد وساكنيها) وقاتلهم الذي لا يشبع من الدم والخراب، كما هو منطق العداء، بل بين الضحايا ورفاقهم المسحوقين بجانبهم، إحياءً لجثث عداءٍ تحلّلت وأصحابها تحت الرصاص وفي الحبوس والمنافي، قرأوا خبراً عابراً عن رفع المئات من قوائم الإرهاب (بعيداً عن سذاجة التحليلات وسفه غالبها)، فهاجوا رفضاً واحتجاجاً وتذكيراً بالجرائم (حقيقيّها ومُلفّقها)، إمّا رفضاً مجرّداً أو مقارنةً بين الأسماء المذكورة (وفيهم متوفّون) وبين ضحايا آخرون لكنّهم أصدقاء أو أهل "مدنيّون" أو أكثر وطنيّة ربّما.

الهزيمة الحقّة عندما يتزعزع يقينك بما تعتقد فيه وتتخلّى عن قناعاتك

في الأولى تمسّك المسحوقون بما يُسحقون عقاباً على تمسّكهم به؛ الحياة والإنسانيّة والرحمة قبل الحريّة والتحرير. وفي الثانية تمسّك الموحول مقطوع اللسان مكسور العين بما أوحَلَه، مفوّتاً على نفسه، وعلى الوطن، فرص التعلّم من المأساة انطلاقاً منها لقادم أكثر عدلاً وإنسانيّة بدلاً من الانحباس فيها إلى ما لا نهاية.

أقدّر الغضب وأتفهّم الشعور بالغُبن وأعرفُ ما يُحدثه القهر المستمرّ بالنفس، لكن أرفض هذا كلّه، وأذكّرُ بما علينا أن نكون، مهما بلغ قبح ما نحن فيه، ولا أفهم الشعور الأحمق بالتمايز الوحليّ الذي يحكم مشاعرنا وأفكارنا في لحظةٍ بائسةٍ كتلك.

لا تنتحل نِحلة الغالب حين تُغلب، لم ينتصر لأنّه ظالم، ولن تنتصر حين تصير مثله (فقط ستصبح مقرفاً بجانب كونك مهزوماً). الهزيمة الحقّة عندما يتزعزع يقينك بما تعتقد فيه وتتخلّى عن قناعاتك. ولا تنسَ أنّ الظالم واحد، وأنّ المفرمة التي سحقتهم هي ذاتها التي سحقتك، وأنّ العلّة في المنظومة، لا في تباين نتائجها، والذي أدانك بالبلطجة أدانه بالإرهاب، وألّا سبيل أمامكما، والجميع أيضاً، سوى إعادة بناء منظومة عادلة تحكم الجميع.