بين بيروت ودمشق: حين يصبح الانتماء عبئاً
"لم تؤثر العلاقات اللبنانية-السورية يومًا على هويتنا المزدوجة. فعلى الرغم من القمع الذي مارسه جيش الردع الأسدي على الجيش اللبناني، إلا أن والدتي، يوم تقاعد والدي من الجيش عام 2004، اقترحت عليه أن نستثمر تعويضه في شراء بيت دمشقي قديم، نحوله إلى منزل لنا ونعيش فيه.
لكن حلم أمي بقي معلقًا، ولم يتحقق حتى يومنا هذا. فبعد 2012، قلبت الأحداث الموازين، وتحوّل جزء من اللبنانيين إلى جيش ردع داخل الأراضي السورية، ليصبح الحلم كابوسًا، وليتحول الانتماء المزدوج إلى عبء نخشى حمله. كيف يمكن لجزئي اللبناني أن يقتل جزئي السوري، ويسلبه أرضه؟ وكيف لجزئي السوري أن يتحوّل إلى أداة قمع لحرية جزئي اللبناني؟ في هذه الفوضى، لم يبقَ للانتماء سوى شعور مرير بالضياع."
لم يكن ما سبق مجرّد مثال ذاتي، بل صورة مصغرة لواقع العلاقات اللبنانية السورية عبر التاريخ، حيث تشابكت المصائر بين القمع والتحالف، بين الأخوة والعداء، وظلّت الهوية المزدوجة رهينة تقلّبات السياسة والصراع.
على مدى أكثر من نصف قرن، اتسمت العلاقات السورية اللبنانية بمعادلة معقدة بين التحالف والوصاية، حيث لعبت سورية دور "الأخ الأكبر"، فارضة نفوذها السياسي والعسكري على لبنان. بدأ هذا النفوذ رسميًا عام 1976 مع دخول الجيش السوري تحت غطاء "قوات الردع العربية" خلال الحرب الأهلية اللبنانية، واستمرّ لعقود، خاصّة بعد اتفاق الطائف عام 1990، حيث تولت دمشق الإشراف على تنفيذه، ما عزّز هيمنتها. غير أنّ هذه الهيمنة بلغت ذروتها في مرحلة الوصاية السورية، قبل أن تنتهي بانسحاب القوات السورية عام 2005، عقب اغتيال رئيس الحكومة اللبناني، رفيق الحريري، وتحت وطأة ضغوط داخلية ودولية، في محطة مفصلية أعادت تشكيل العلاقة بين البلدين، وطرحت تساؤلات حول مستقبل لبنان بعيدًا عن معضلة "الأخ الأكبر".
تشابكت المصائر بين القمع والتحالف، بين الأخوة والعداء، وظلّت الهوية المزدوجة رهينة تقلّبات السياسة والصراع
وحين اندلعت الثورة السورية في مارس/ أذار 2011، انعكس الانقسام اللبناني التقليدي تجاه النظام السوري بشكل أكثر حدّة. فمع دخول حزب الله الحرب إلى جانب النظام متذرّعاً بأن تدخله في سورية سيحمي طريق إمداد السلاح، أغفل أنّ الإمداد الحقيقي لا يقتصر على العتاد العسكري، بل يشمل أيضاً الحاضنة الشعبية التي ساندته واحتفت بنصره في حرب 2006، والتي تحوّلت لاحقاً إلى ضحايا القصف والتهجير، فتبدّلت النظرة إليه، ليجد نفسه في موقع المدافع الأوّل عن النظام السوري، بعدما كان يُنظر إليه كحركة مقاومة تتجاوز الحسابات الداخلية الضيّقة، أي تحوّل من "مقاومة عربية" إلى قوات ردع إيرانية ناطقة باللبنانية على الأراضي السورية، ليُحكم حول عنقه طوقًا مذهبيًا صفويًا جعله يتخبّط في مواجهة الجميع.
فبعد وصاية بعثية، أمنية، أحكمت قبضتها على لبنان لعقود، وردع إيراني دعم نظامًا مترّنحًا بغطاءٍ طائفي، يطرح السؤال نفسه: كيف سيكون واقع العلاقات اللبنانية السورية في ظلّ المتغيرات الإقليمية والإدارة الجديدة؟ وهل ستبقى هذه العلاقة أسيرة النفوذ الخارجي والتجاذبات الإقليمية، أم أنّ ثمّة فرصة لإعادة رسم ملامحها على أسس أكثر استقلالية وتوازنًا؟
في زيارته الأخيرة إلى سورية ولقائه الرئيس الحالي أحمد الشرع، حاول رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، لعب ورقته الأخيرة عبر استثمار نفوذ الإدارة الجديدة لفرض سطوتها على الداخل اللبناني. وإذ يدرك حجم إفلاسه السياسي، سعى لإبرام صفقة تقضي بإطلاق سراح السجناء الإسلاميين في مبنى "باء" من سجن رومية، مقابل تأمين دعم سوري تركي قطري يمهّد لتسميته رئيسًا للحكومة المقبلة. إلا أنّ الرد جاء حاسمًا: سورية ستظل ملتزمة بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف اللبنانية. تصرّ الإدارة الجديدة على التمسّك بهذا الخطاب، ساعية إلى ترسيخ أسس أكثر توازنًا للعلاقات اللبنانية السورية، بعد عقود من التدخلات والتجاذبات التي أنهكت كلا البلدين وشوّهت مسار هذه العلاقة على مدى 50 عامًا.
يبقى الاحترام المتبادل للسيادة والتفاهم بين البلدين هو الأساس لأيّ علاقات مستقبلية
إنّ العلاقات السياسية بين لبنان وسورية يمكن أن تُبنى على أساس من احترام سيادة كلّ بلد، فكما تمّ انتهاك السيادة اللبنانية في فترات ماضية، فقد تمّ التعدي على السيادة السورية في ظروف معينة. إذًا، يبقى الاحترام المتبادل للسيادة والتفاهم بين البلدين هو الأساس لأيّ علاقات مستقبلية.
أخيراً، يبقى الشق الأصعب في العلاقات اللبنانية السورية هو معالجة الذاكرة المشتركة بين الشعبين، فمع الانتماء المزدوج للكثيرين بين البلدين والتداخل العميق في التاريخ الثقافي والاجتماعي، ما تزال هذه الذاكرة تحمل جراحًا وآلامًا خلّفت آثارًا عميقة في النفوس رغم مرور السنوات وتغيّرات الواقع الإقليمي والدولي، يبقى السؤال الأهم حول كيفية إدارة الذاكرة المشتركة وتحقيق التوازن بين سيادة كلّ دولة. إنّ الاعتراف بالآلام المشتركة والتعامل مع الجروح التاريخية من خلال الحوار المجتمعي يعدّ خطوة حاسمة نحو بناء الثقة وإعادة العلاقات إلى مسار أكثر استقرارًا وتعاونًا. لعل المستقبل يحمل فرصة لإعادة رسم ملامح هذه العلاقات على أسس أكثر استقلالية وتفاهما، بعيدًا عن الصراعات القديمة، سعيًا نحو السلام والعدالة لشعبي لبنان وسورية.