بين "انتصار" حزب اللّه و"نهايته": صِدام الأوهام

09 ديسمبر 2024
+ الخط -

ما إن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ فجر السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بين الجيش الإسرائيلي وحزب اللّه، حتى بدأ صدام السرديات في لبنان بين فريق "ممانع" يدعي انتصاره في هذه الحرب (ثنائي حزب اللّه ـ حركة أمل تحديداً)، وبين فريق "سيادي" يقول غالباً إنّ حزب اللّه قد انتهى بنتيجة الحرب الضروس الأخيرة التي شهدها لبنان بين الحزب وإسرائيل. أما الوقائع، ولا سيما بنود اتفاق وقف الأعمال العدائية، فتنفي صحة السرديتين، وتسمح بتفكيككهما.

يجب عدم التقليل من الإيجابيات التي يحتوي عليها اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل، ولا سيما بالنسبة لسيادة لبنان. ولعل أهمها أنه ينص على وقف الأعمال العدائية من قبل إسرائيل ومن قبل حزب اللّه وكل الجماعات المسلحة الأخرى الموجودة على الأراضي اللبنانية؛ كما يؤكد الاتفاق ضرورة تطبيق القرار 1701 كاملاً من قبل لبنان وإسرائيل، بما في ذلك أن تكون منطقة جنوب الليطاني في لبنان خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة (وقد أضاف الاتفاق الجديد إليها: البنى التحتية والمواقع العسكرية التي على الجيش اللبناني تفكيكها) إلا ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان؛ فضلاً عن منع مبيعات أو إمدادات الأسلحة والمعدات ذات الصلة إلى لبنان عدا ما تأذن به حكومته (بما في ذلك إنتاج الأسلحة، وتفكيك جميع المرافق غير المرخصة التي تشارك في إنتاج الأسلحة)، ونشر عشرة آلاف جندي من الجيش اللبناني في الجنوب.

كما أنّ الاتفاق يتضمن في مقدمته "الاعتراف بأن قرار مجلس الأمن رقم 1701 يدعو أيضاً إلى التنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن السابقة له، بما في ذلك "نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان"، بالإشارة تحديداً إلى القرار 1559، ما قد حسم ـ لغير صالح رئيس مجلس النواب نبيه بري ـ الجدل القانوني الذي كان دار أثناء حرب الشهرين الأخيرة حول إلزامية القرار 1559 بالنسبة للبنان، وحول سقوط الـ1559 بفعل القرار 1701.

ومن أهم إيجابيات الاتفاق أنه يتضمن الطلب من الولايات المتحدة – بالشراكة مع الأمم المتحدة – تسهيل المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل ولبنان بهدف حل النقاط المتنازع عليها المتبقية على طول الخط الأزرق، بما يتفق مع القرار 1701.

بنود اتفاق وقف الأعمال العدائية تدحض سردية "انتصار" الحزب

ولكن، بالمقابل، فقد جاء الاتفاق بسلبيات كثيرة، لا سيما في ما يتعلق بسيادة لبنان، واستقلاله، وسلامة أراضيه، ما يجعل من الاتفاق، بجزء معتبر منه، نوعاً من "طبخة بحص" بالنسبة للبنان. فمثلاً، الاتفاق ليس كالـ1701 قراراً ملزماً من قرارات الشرعية الدولية تحت مظلة الأمم المتحدة وضمانتها (قرار من مجلس الأمن)، وليس معاهدة ملزمة بين دولتين، بل هو اتفاق غير ملزم (gentleman’s agreement) جرى التفاوض عليه بطريقة غير مباشرة بين دولتين، وهو اتفاق برعاية الولايات المتحدة الأميركية وضمانتها. وقد أعاد الاتفاق صياغة وتعزيز الآلية (اللجنة) الثلاثية لتنفيذ ومراقبة وقف الأعمال العدائية التي كانت تضم ممثلين عن الجيش اللبناني، والجيش الإسرائيلي، وقوات يونيفيل، لتصبح لجنة خماسية برئاسة الولايات المتحدة (ولتضم فرنسا أيضاً)، ما يطرح علامات استفهام حول حيادية عمل هذه اللجنة بالمقارنة مع سابقتها التي كانت بإشراف قوات يونيفيل التابعة للأمم المتحدة.  

أما الأخطر من ذلك، فهو أنّ الاتفاق ينص على انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى جنوب الخط الأزرق ليس بشكل فوري وكامل بعد توقف الأعمال العدائية (كما هو وارد في الـ1701)، بل بشكل تدريجي على فترة 60 يوماً، ما يشكل قبولاً، ولو بشكل مؤقت، من قبل لبنان بانتهاك سيادته، واستقلاله، وسلامة أراضيه، بفعل وجود الجيش الإسرائيلي على الأراضي اللبنانية خلال هذه الفترة، لا سيما أنّ ذلك يتيح عمليا للجيش الإسرائيلي التصرف باعتباره قوة احتلال في المناطق التي يسيطر عليها سيطرة فعلية جنوب الليطاني خلال هذه المدة، والتي تعتبر أراضي محتلة بنظر القانون الدولي (المادة 42 من اتفاقية لاهاي الرابعة الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية ومرفقها اللائحة المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية، 1907- تعتبر من الأحكام العرفية في القانون الدولي).

فضلاً عما تقدم، وفي ما يتعلق بالبند المتعلق بالمدة القصوى للانسحاب (عدم جواز أن تتخطى الفترة الكاملة للانسحاب التدريجي 60 يوماً ـ البند 12 من الاتفاق)، فقد جاءت الصياغة فضفاضة، إذ تم الاكتفاء باستعمال تعبير ملطّف "Should Not"/"لا ينبغي"، وليس تعبير "Must Not"/"لا يجب" في الاتفاق، ما يمكنه أن يفتح مجال التأويل لصالح إسرائيل لجهة إطالة فترة بقاء جيشها في لبنان، وربط ذلك بتقييمها الاستنسابي للتقدم الذي يحرزه الجانب اللبناني في تنفيذ الموجبات التي يلقيها الاتفاق على عاتقه.

 وما يزيد في خطورة الاتفاق هو إصرار الجانب الإسرائيلي على ذكر فضفاض للحق بالدفاع عن النفس بما يتلاءم مع القانون الدولي، من دون تحديد بوضوح ما إذا كان الدفاع الاستباقي عن النفس يدخل ضمن هذا البند (الرابع) من الاتفاق، ما قد يفسح المجال للتذرع بالدفاع الاستباقي لخرق وقف الأعمال العدائية وإعطاء إسرائيل "حرية الحركة" في لبنان، لا سيما أنّ إسرائيل سبق أن تذرعت مراراً في حروبها بالدفاع الاستباقي عن النفس (حرب الـ67 مثالاً).

فأين "الانتصار" في اتفاق كهذا؟ يعكس الاتفاق بشكل واضح، في النقاط المتعددة آنفة الذكر، فراغ السردية القائلة بانتصار الحزب، فضلاً عما يحتويه الاتفاق من قبول لبنان بانتهاك سيادته، ولو بشكل مؤقت، وهذه النقطة الأخيرة هي التي يجب أن تعني أولا اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه من سخرية القدر أن يكون الذين فاوضوا مؤخراً على هذا الاتفاق وقبلوا ببنوده، هم أنفسهم الذين كانوا يخوّنون حكومة فؤاد السنيورة في 2006 لأنها "قبلت" بالقرار 1701، في حين أنّ الـ1701 يصون سيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه بشكل تام، وذلك بعكس اتفاق اليوم الذي يناسب إسرائيل ويريح الحزب، ولكن يشرعن انتهاك سيادة لبنان، ولو مؤقتاً، من قبل العدو. وبالمناسبة، هذا ليس التفريط الأول بسيادة لبنان وحقوقه السيادية الذي يقدم عليه هؤلاء المفاوضون عن الجانب اللبناني، فقد سبق أن قبلوا منذ سنتين، في اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، بانتهاك "مؤقت" للسيادة في منطقة "خط العوامات" الأمنية، وبالتنازل عن حقل كاريش لصالح إسرائيل.

ولكن، بالمقابل، إنّ فراغ سردية "انتصار" الحزب لا تعني أنه "انتهى" بفعل اتفاق وقف الأعمال العدائية.

أوهام "السياديين" حول "انتهاء" الحزب بفعل اتفاق وقف الأعمال العدائية

فالقول إنّ حزب اللّه قد استسلم و/أو قد انتهى بصفته تنظيماً عسكرياً بفعل اتفاق وقف الأعمال القتالية هو أيضا مبالغة تنطوي على الكثير من التفكير بالتمني، كي لا نقول على الكذب على النفس وعلى اللبنانيين. استسلام حزب اللّه يكون عندما يتخلى عن كل سلاحه، وعتاده، ومقاتليه (يصبحون أسرى حرب)، فضلاً عن المناطق التي يسيطر عليها، للجيش الإسرائيلي، وهذا ما لم يحصل، وهذا أمر غير وارد في اتفاق وقف الأعمال العدائية. الاتفاق يرضي إسرائيل بشكل رئيسي لأنه لصالحها، كما أنه يريح حزب اللّه، إذ يتيح له كسب الوقت والتقاط أنفاسه، ولذلك لا يجب أن توهم الأحزاب والشخصيات "السيادية" اللبنانيين المعارضين حزبَ اللّه بأنّ الحزب قد "انتهى" بفعل الاتفاق الأخير، وأنّ صفحته قد طويت بصفته تنظيماً عسكرياً إلى غير رجعة، ولا أن تبيعهم ما شاكلها من أوهام النوم على حرير. إنّ اتفاق وقف الأعمال العدائية لا ينهي إطلاقاً حزب اللّه بصفته تنظيماً مسلحاً، حتى في الجنوب؛ فالحزب ليس جيشاً نظامياً (حتى لو جنح في سنواته الأخيرة نحو هذا الشكل)، بل هو ـ بشكل أساسي ـ حركة حرب عصابات بالمعنى العسكري (مجموعة مسلحة من غير الدول)، يستطيع التأقلم مع تفكيك بناه التحتية في الجنوب، والتقاط أنفاسه مرحلياً. اتفاق وقف الأعمال العدائية ليس "نهاية" حزب اللّه، وهو لا ينهي إطلاقاً المشكلة الكبيرة التي يشكلها حزب اللّه وسلاحه بالنسبة للبنان.

ومن الجدير ذكره أنها ليست المبالغة الأولى التي يقع فيها الكثير من هؤلاء "السياديين"، فقد شكلت الحرب الأخيرة مناسبة لفضح الكثير من زيف ادعاءاتهم السيادية. من جهة أولى، كثيرون منهم لم يروا أنّه، في حرب الشهرين في لبنان، قد تخطت الأمور إطار "الدفاع المشروع" ضد حزب اللّه، لتشكل عدواناً من قبل إسرائيل على دولة ذات سيادة هي لبنان (حسب تعريف العدوان الوارد في القرار 3314 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14/12/ 1974، الذي كرسته المادة 8 مكرر التي أضيفت لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في 2010)، لا سيما بسبب انتهاك مبدأي التناسب والضرورة في الدفاع المشروع ـ هذا أصلاً إن سلمنا جدلاً أنه كان لإسرائيل هذا الحق، ومن دون أن يعني ذلك أنّ الدولة اللبنانية طرف في النزاع (إذ لا تشارك في الأعمال العدائية، وهي خيراً فعلت، وإلا لأصبح العدوان أكثر خطورة وفداحة على لبنان).

من جهة ثانية، باعتقادهم أنّ عدواناً على البلد هو وسيلة لتسكير المخارج السياسية التي يستطيع حزب اللّه النفاذ منها للتهرب من تطبيق 1559 (ولا سيما نزع سلاحه)، تبين أنّ كثيرين من "السياديين" قد أعمتهم خصومتهم مع الحزب عن الأهم: ألا وهو سيادة لبنان، إذ إنهم أرادوا الدفع نحو تطبيق القرار 1559 (الذي لم يصدر خلال نزاع مسلح قائم أو لوقفه، والذي أُولي أمر تنفيذه للدولة اللبنانية وحدها ـ وليس لأي طرف خارجي ـ وذلك حفاظاً على سيادتها)، ولو كان ذلك بفعل انتهاك سيادة لبنان من قبل الجيش الإسرائيلي، ولو كان ذلك عبر إفراغ القرار 1559 من كل روحيته (استرجاع سيادة الدولة كاملة)، وتحويله مجردَ إملاء لصالح إسرائيل التي ينتهك جيشها سيادة لبنان؛ فوقعوا بذلك في تناقض كبير، لا سيما أنّهم يدعون أنّ السيادة هي الموضوع الأساسي في خصومتهم مع الحزب (بشقها الداخلي خصوصاً). تبين أنّ ما يعنيهم أولاً هو الغلبة في المعادلة الداخلية، ولو كان ذلك على حساب لبنان وسيادته واستقلاله وسلامة أراضيه.

أما الأكثر خطورة من ذلك، فهو أنك تجد من "السياديين"، غالباً في نفس السياق، من ينفي وجود سيادة الدولة اللبنانية بسبب وجود حزب اللّه، في حين أنه ـ قانونياً ـ سيادة الدولة، أي دولة، صفة متأصلة بالدولة، موجودة بمجرد وجود هذه الدولة، وتبقى هذه السيادة موجودة حتى زوال هذه الدولة، وذلك بتشكل دولة أو دول أخرى ترث سيادة الدولة القديمة على أراضيها. فمهما بلغ انتهاك سيادة الدولة داخلياً أو خارجياً، لا تختفي سيادة الدولة قانونياً. بكلام آخر، إذا كانت سيادة الدولة اللبنانية منتهكة بشكل كبير بسبب وجود حزب اللّه، فلا يعني ذلك إطلاقاً أنها غير موجودة. ولذلك لا يحق لأي دولة أخرى، كإسرائيل، التذرع بوجود حزب اللّه للقول إنّ سيادة الدولة اللبنانية غير موجودة لتبرير قيامها بعدوان على لبنان، وعدم الاكتفاء "بالدفاع عن النفس" بوجه حزب اللّه.

لا بل من "السياديين" من ذهب حتى لنفي صفة الدولة عن لبنان بسبب وجود حزب اللّه، خالطاً بذلك بين ضعف الدولة وزوال الدولة (أو عدم وجودها)، بين مفهوم الدولة في القانون (الدستوري/والدولي العام) من جهة، ومفهوم الدولة في العلاقات الدولية (علوم سياسية) من جهة أخرى، لا سيما بما يتعلق بمفهوم "الدولة الفاشلة". فمفهوم الدولة الضعيفة (Etat fragile) أو الدولة الفاشلة (failed state) هو مفهوم سياسي، وليس مفهوماً قانونياً. بكلام آخر، لا يعترف القانون الدولي بهذا المفهوم، لا سيما أنّه مفهوم مبني على معايير تبقى فضفاضة وضبابية، لا تقبلها دقة العقل القانوني، ولا ينتج عنه نظام قانوني محدد. ولذلك، كون لبنان - بالمفهوم السياسي -"دولة فاشلة" على الأرجح، لا سيما بوجود تنظيم مسلح ـ كحزب اللّه ـ يهيمن على البلد، لا ينفي عنه قانونياً صفة الدولة إطلاقاً، أي بمفهومها القانوني (قانون دولي).

لبنان دولة، دولة ذات سيادة، ولو كره بعض "السياديين" الذين، بغلوهم، وغالباً عن غير قصد ومن حيث لا يتنبهون، إما يبررون بشكل خاطئ لإسرائيل قيامها بعدوان على لبنان، وإما يخدمون أجندة المليشيا-"الدويلة" التي تهيمن على البلد، وإما يجمعون "المجد" من طرفيه، والخاسر الأكبر، في جميع الحالات، هو الدولة والسيادة ولبنان!