بين الواقع والخيال العلمي.. أين يعيش الإنسان؟

07 ديسمبر 2024
+ الخط -

يعيش الإنسان محصوراً في أبعاده المكانية والزمانية الأربعة التي تشكّل واقعه المُعاش المرئي، ويمكن أن نقول إنّه يعيش أيضاً في بعده الخامس البيولوجي الذي يشكّل ملامحه وصفاته. لكن هل هذا كلّ شيء؟

بالطبع لا! فهناك مَلَكَة لدى الإنسان تُميّزه عن كائناتِ المملكة الحيوانية والنباتية معاً، إنها مَلَكَة التخيّل؛ حيث يمثّل الخيال النافذة التي وهبها الله جلَّ وعلا للإنسان ليخترقَ كلّ تلك الأبعاد المكبِّلة له في الحياة؛ فهو بالخيال يستطيع أن يخمّن ويشكّل وجودَ ما لا وجود له إلّا في مخيلته التي كلّما كانت أوسع أفقاً، استطاعت صنع عوالمَ لامتناهية!

الخيال ومشروعي الأدبي؟

 لماذا اخترت الخيال العلمي جزءاً أو كلّ مشروعي الأدبي؟

الحقيقة أنّ الخيال العلمي هو جزء من مشروعي الكتابي وليس الأدبي، فأنا لا أعتبر نفسي كاتب قصّة، لا خيال ولا غيره، بل كاتب يحوم حول الخيال العلمي موثِّقاً ودارساً له، وقبل هذا وذاك، قارئ نهم لهذا النوع من الأدب الذي هو أدب القرن العشرين، كما سمّاه الأستاذ محمود قاسم.

أنا لم أكتب في الخيال العلمي إلّا قصّة يتيمة اسمها "مذكرات تائه"، نشرتها صحيفة العربي الجديد في أيار/ مايو 2018م.

يعيش الغرب أحلام الخيال العلمي كحقيقة مجسّدة فيما نعيش نحن في الشرق كوابيس الخوارج والحشاشين ومنْ حذا حذوهم

لكني كتبتُ مقالات حول أدب الخيال العلمي وثيماته ومجلاته وجوائزه، ولا يزال الباب مفتوحاً للكتابة حول آفاقه الواسعة.   

بداياتي مع الخيال العلمي

بدايات تعرّفي على هذا الأدب كانت مع سلسلة "ملف المستقبل" التي كانت تُصدرها المؤسّسة العربية الحديثة ضمن سلسلة "روايات مصرية للجيب" للدكتور نبيل فاروق. لقد فتحت تلك السلسلة ذهني على ثيمات الخيال العلمي، إذ ناقشتها كلّها تقريباً، ثم جاءت سلسلة "روايات عالمية للجيب" التي تَرجمت روائع الأدب العالمي، طبعاً من ضمنها الخيال العلمي، ولا أزال أذكر تحمّسي لمشاهدة فيلم "فلاش غوردن" في سينما خالدة، إحدى دور السينما في صنعاء عام 1994م، لأني كنتُ قد قرأتُ رواية الفيلم مترجمة ضمن أول أعداد سلسلة "روايات عالمية للجيب".

أمر ممتع أن ترى القصّة مجسّدة أمامك على الشاشة بكلّ مؤثرات الفن السابع المبهرة. وهكذا دخلت هذا العالَم الساحر.

العالَم الساحر والمنطق

الخيال العلمي عالَم ساحر، يمتزج فيه العلم برصانته مع الأدب بانطلاقه، بعيداً عن الشطحات التي يرفضها المنطق (أنا أتحدّث هنا عن الخيال العلمي وليس الفانتازيا).

يُعلّمنا الخيال العلمي التفكير العلمي السليم والمنظّم والمنضبط بالمنطق، الذي تطوّر منذ عهد أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حتى برتراند راسل في القرن العشرين، مروراً بجورج بول، صاحب المنطق البولياني في منتصف القرن التاسع عشر، مرتكَز عمل الحاسوب اليوم.

يصوّر الخيال العلمي لنا شكل المستقبل، والعلم يصنع ذلك المستقبل

بصفتي مهندساً، هذا يعني أني أكثر التصاقاً بالرياضيات التي تقوم على المنطق، لذا كان الخيال العلمي رافداً ونافذة لي أُضيفت في زوايا التفكير.

لو تلفّتنا حولنا اليوم، فسنجد أنّنا نعيش إنجازات العلم الحديث، تلك الإنجازات التي تخيلّها جول فيرن وهربرت جورج ويلز وإسحق عظيموف وآرثر كلارك وغيرهم من كتّاب الخيال العلمي، الذين سمّاهم صديقي الكاتب ياسر أبو الحسب "مهندسي الخيال". فالخيال العلمي يصوّر لنا شكل المستقبل، والعلم يصنع ذلك المستقبل.

أنا سعيد لأنّي أحيا عن قرب من عوالم هؤلاء "المهندسين"، قارئاً وباحثاً ومستمتعاً، بل أصبحتُ أحسبُ نفسي "داعيةً" لهذا العالَم الساحر، عالَم الخيال العلمي، أدعو مَنْ حولي ليعيش متعة التخيّل العلمي الذي يجعل من العلم مرتكَزاً للتفكير، ولو لم تكن له إلّا هذه الميزة لكفتهُ كي نحيا في معيتهِ طوال العمر.

ولا ننسى أننا نحيا في هذا العصر الذي من مفارقاته أنّ الغرب والبشرية معه يعيشان أحلام وتنبؤات جول فيرن وويلز وآرثر كلارك وغيرهم من كتّاب الخيال العلمي، في حين نحن في الشرق نعيش كوابيس الخوارج والحشاشين ومَنْ حذا حذوهم. أفلا نلجأ إلى الخيال العلمي في محنتنا هذه؟!

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى