بنيوية أم تفكيك؟ من البنية المغلقة إلى أفق الاختلاف

24 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 13:48 (توقيت القدس)
+ الخط -

يشكّل المنهج البنيوي والمنهج التفكيكي لحظتين مُتمايزتين في مسار الفكر الفلسفي والنقدي المعاصر، وهما لحظتان ترتبطان ارتباطاً جدلياً من حيث النشأة والتأثير والامتداد. البنيوية نشأت بوصفها محاولة لتشييد علم للثقافة على غرار العلوم الدقيقة، أمّا التفكيك فقد ظهر كردّ فلسفي وإبستمولوجي على النزعة الصورية الصارمة للبنيوية. إنّ مقاربة المسارين معاً تكشف عن التحوّل العميق الذي عرفته الفلسفة في القرن العشرين، من البحث عن نسق علمي صلب إلى تفكيك كلّ مركز للمعنى، ومن تصوّر النص كبُنية مغلقة إلى النظر إليه كفضاء مفتوح على الاختلاف والتأجيل.

البنيوية من حيث المغزى الأساسي تُبنى على الفرضية التي بلورها العالم اللغوي السويسري فرديناند دو سوسور، الذي يُعتبر أب المدرسة البنيوية في اللسانيات، حيث اللغة نسق من العلاقات، والدال لا يُحيل إلى المدلول بذاته بل ضمن شبكة من الفروق. البنية إذن ليست مادة محسوسة بل نظام من العلاقات يتحدّد فيه كلّ عنصر بموقعه داخل النسق. هذه الفرضية الأولية سرعان ما انتقلت إلى مجالات أخرى: في الأنثروبولوجيا مع عالم الاجتماع والأنثربولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس، الذي رأى في الأساطير والعادات أنساقاً يمكن مقارنتها وفهمها من خلال بنيتها العميقة؛ في التحليل النفسي مع المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، الذي أعاد قراءة عالم النفس سيغموند فرويد "عبر بنية لغوية"؛ وفي النقد الأدبي مع المفكر والناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت، والمفكر الفرنسي البلغاري تزفيتان تودوروف، اللذين درسا النصوص بوصفها أنظمة دلالية مُغلقة على قوانينها الداخلية. ما يجمع هذه التطبيقات هو الرغبة في تجريد الظواهر الإنسانية من العرضي والتاريخي، والبحث عن قوانين عامة تحكمها، بما يشبه القوانين الطبيعية في الفيزياء أو الكيمياء.

نشأ التفكيك في سياق نقدي يهدف إلى تقويض صرامة البنيوية ونزعتها إلى إغلاق النصوص

تاريخياً، ظهرت البنيوية في النصف الأوّل من القرن العشرين، لكنها بلغت ذروتها في خمسينيات وستينياته. وقد لقيت رواجاً واسعاً في فرنسا خاصة، ثم انتشرت في أوروبا والولايات المتحدة، حتى صارت بمثابة النموذج المُهيمن في العلوم الإنسانية. كانت قوّتها تكمن في صرامتها المنهجية، وفي طموحها لتجاوز التأويلات الذاتية والهامشية نحو علمية دقيقة. لكن في المقابل، هذه القوّة كانت مصدر ضعفها، إذ بدا أنّها تسلب الظواهر الثقافية من تاريخيتها ومن فاعلية الذوات التي تنتجها. وبذلك، وُجِّهت إليها انتقادات بأنّها تغلق النصوص داخل بنيات صورية لا تعترف بالسياق الاجتماعي والسياسي.

هنا تحديداً برز التفكيك، وهو المشروع الذي ارتبط باسم الفيلسوف والناقد الأدبي جاك دريدا منذ ستينيات القرن العشرين. التفكيك ليس منهجاً بالمعنى التقليدي، بل ممارسة فلسفية ونقدية تستهدف الكشف عن التوتّرات الداخلية التي تنخر أيّ بناء نظري أو نصّي. دريدا انطلق من تحليل الميتافيزيقا الغربية التي قامت على ثنائية الحضور والغياب، الكلام والكتابة، الأصل والفرع. كان يرى أنّ الفكر الغربي منح الامتياز للحضور على الغياب، وللكلام على الكتابة، لكنه لم يلحظ أنّ ما يسميه حضوراً يقوم دوماً على أثر غائب، وأنّ ما يعتبره أصلاً ينطوي على تبعية لما هو مؤجّل. التفكيك بهذا المعنى يكشف أنّ المعنى غير ثابت ولانهائي، بل هو دوماً في حركة "اختلاف" لا تنتهي، حيث كلّ دال يُحيل إلى دال آخر في سلسلة لا نهاية لها، فلا يتحقّق المدلول النهائي المزعوم.

تبحث البنيوية عن التماثل والثبات، في حين أنّ التفكيك يبحث عن الاختلاف والتعدّد

نشأ التفكيك في سياق نقدي يهدف إلى تقويض صرامة البنيوية ونزعتها إلى إغلاق النصوص. لكنه لم يكتف بذلك، بل تحوّل إلى أفق فكري أوسع شمل النقد الأدبي، الفلسفة، النظرية السياسية، دراسات القانون، النقد النسوي، ودراسات ما بعد الاستعمار. في الولايات المتحدة، خصوصاً منذ سبعينيات القرن العشرين، صار التفكيك أحد أهم المرجعيات في أقسام الأدب والعلوم الإنسانية، وأثّر في جيل كامل من النقاد والفلاسفة.

ما يميّز البنيوية هو نزعتها النسقية، وسعيها إلى إقامة علم للثقافة يتعامل مع النصوص كما يتعامل عالم الأحياء مع الكائنات. النص عندها هو بنية مُكتفية بذاتها، والعلاقات الداخلية هي مفتاح المعنى. أما التفكيك فيرفض هذه النزعة العلمية الصارمة، ويرى أنّ النصّ ليس مغلقاً بل مفتوح على لانهائي من إمكانات القراءة. البنيوية تبحث عن التماثل والثبات، في حين أنّ التفكيك يبحث عن الاختلاف والتعدّد. البنيوية تفترض إمكانية وجود معنى كامن ومُستقر في البنية، بينما التفكيك يكشف أنّ كل معنى مؤجّل ويقوم على غياب ما. ومن هنا يتضح أنّ التفكيك ليس مجرّد استمرار للبنيوية، بل هو قطيعة معها وإن انبثق منها.

لا يمكن فهم التفكيك من دون استحضار البنيوية، كما لا يمكن إدراك حدود البنيوية إلا عبر ما كشفه التفكيك

من حيث الانتشار، مثّلت البنيوية اتجاهاً عالمياً في منتصف القرن العشرين، لكنها فقدت الكثير من بريقها مع صعود ما بعد البنيوية أو ظهور المنهج التفكيكي. ومع ذلك، تركت آثاراً باقية في مناهج التحليل النصي، وفي علوم مثل الأنثروبولوجيا وعلم النفس. أما التفكيك فظلّ مثار جدل واسع: مؤيّدوه اعتبروه فتحاً نقدياً غير مسبوق يُتيح التفكير في الهامش والمقموع واللاّمفكَّر فيه، وخصومه اعتبروه نسبية مفرطة تُفضي إلى العدمية. غير أنّ تأثيره في إعادة صياغة العلاقة بين النصّ والقارئ، بين المعنى وسياقاته، وبين الفكر وموروثه الميتافيزيقي، لا يمكن إنكاره.

في مستوى الفكر الفلسفي، يمثّل المنهج البنيوي محاولة لإعادة تأسيس العلوم الإنسانية على نموذج معرفي قريب من العلوم الطبيعية. إنّه مشروع يراهن على الموضوعية والصرامة، وعلى إمكانية الكشف عن القوانين العميقة التي تحكم الثقافة واللغة والأسطورة. التفكيك، بالمقابل، يمثّل انفتاحاً على ما يستعصي على الاختزال العلمي: على الاختلاف، والغياب، والتأجيل، وكل ما لا ينضوي تحت البنية الصورية. لقد جعل الفلسفة تواجه حدودها، وكشف أنّ البحث عن أصل ثابت أو حضور كامل هو في ذاته وهم ميتافيزيقي.

بين البنيوية والتفكيك يتشكّل المشهد الفلسفي والنقدي الذي ما زال أثره ممتدّاً حتى اليوم

يُظهر الجمع بين البنيوية والتفكيك أنّ الفكر المعاصر مرّ بتحول نوعي: من الرغبة في التأسيس لعلمية صارمة إلى الانخراط في نقد تلك العلمية نفسها. الأولى مثلت إرادة النظام والصرامة، والثانية جسّدت إرادة النقد والزعزعة. ولا يمكن فهم التفكيك من دون استحضار البنيوية، كما لا يمكن إدراك حدود البنيوية إلا عبر ما كشفه التفكيك. إنّهما ليسا مجرّد منهجين متعارضين، بل هما مرحلتان في مسار واحد، حيث الأولى هي شرط ظهور الثانية، والثانية هي لحظة نقدية أعادت النظر في الأولى.

لقد أثّرت البنيوية في العلم بقدر ما أثّرت في الفلسفة، إذ أعادت تشكيل الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي واللسانيات. وأثّر التفكيك في الفلسفة بقدر ما أثّر في النقد الأدبي، إذ فتح آفاقاً جديدة أمام التفكير في النصوص والهُويّات والسياسة والمعرفة. كلاهما إذن تجاوز حدوده المباشرة ليترك بصمة عميقة في الفكر المعاصر. وإذا كان بعضهم يرى أنّ التفكيك أنهى مشروع البنيوية، فإنّ الدقة تقتضي القول إنّه أعاد صياغة أسئلتها في أفق جديد، حيث لم يعد السؤال عن "البنية" بل عن "الاختلاف"، ولم يعد الهمّ هو البحث عن "قوانين" بل عن "إمكانات".

إنّ البنيوية والتفكيك، كلّ على طريقته، يمثّلان استجابة لتحديات القرن العشرين: الأوّلى عبر طموح علمي إلى ضبط الثقافة واللغة ضمن أنساق قابلة للتحليل، والثاني عبر مساءلة ذلك الطموح نفسه، وإظهار أنّ المعنى غير قابل للاختزال في أيّ نسق. وبين هذين القطبين يتشكّل المشهد الفلسفي والنقدي الذي ما زال أثره ممتدّاً حتى اليوم.