باب النجار مخلّع!

باب النجار مخلّع!

03 ديسمبر 2020
+ الخط -

كل شيء تقرأه عن هذا الفيلم قبل مشاهدته سيؤهلك للاستمتاع بعمل متميز، أو على الأقل عمل يحمل كثيراً من تميز الأعمال التي كتبها من قبل مخرجه السيناريست البريطاني من أصل إيراني حسين أميني Hossein Amini، مثل فيلم The Wings of the Dove الذي ترشح عنه لـ"أوسكار" أحسن سيناريو أو أفلام (Jude – The Four Feathers – Shanghay – Drive – Our Kind of Traitor - killshot)، وغيرها من أعماله المتنوعة والممتعة، لكن الانطباع الذي ستظل تقاومه منذ انتهاء الثلث الأول من الفيلم، وربما تغلب عليك بعد الانتهاء من مشاهدته، أن مخرج هذا الفيلم يعتبر متميزاً خصوصاً إذا عرفت أن هذا هو عمله الأول، لكنه للأسف أهمل الاستعانة بنفسه ككاتب متميز ومخضرم، في تطبيق جديد لمثل "باب النجار مخلّع".

يقدم فيلم "وجهان ليناير" The Two Faces of January تنويعة جديدة على فكرة علاقة مثلث الحب التي تنشأ بين شاب صغير يتعرف على زوجة شابة وزوجها الأكبر سناً، أحداث القصة تبدأ في أثينا عاصمة اليونان عام 1962، حيث نرى ثنائياً سعيداً مكوناً من شيستر ماكفرلاند الذي يلعب دوره النجم فيغو مورتينسن الذي اشتهر بكونه بطل ثلاثية "سيد الخواتم"، ومن زوجته كوليت التي تلعب دورها النجمة كريستين دانست، يتعرف الاثنان خلال زيارتهما لمعبد الأكروبوليس أشهر آثار أثينا على شاب أميركي اسمه رايدال يتخذ من الإرشاد السياحي وسيلة للنصب على السائحات ـ يلعب دوره الممثل الصاعد أوسكار إيزاك والذي كان أشهر أدواره وأجملها بطولة فيلم الأخوين كوين "بداخل لوين ديفيز"، وتبدأ علاقة الاثنين مع المرشد الشاب بشكل لطيف مبعثه كون الثلاثة أبناء وطن واحد التقوا في الغربة، وخلال تنامي هذه العلاقة يلاحظ رايدال وجود توتر مكتوم بين الزوجين، لكن الزوجة تحرص على إظهار حبها لزوجها طيلة الوقت.

اسم الفيلم ليس منفصلاً عن الأساطير الإغريقية التي تعتبر أن الإله جانوس ـ والذي تم نسبة شهر يناير أو جانيوري إليه ـ هو الإله المسؤول عن التغيرات والانتقالات في حياة المخلوقات

بعد أن كان مقرراً أن تفترق سبل الثلاثة بعد عشاء جمعهم سوياً، نكتشف بعد وصول مفاجئ لمحقق خاص إلى الفندق قادماً من أميركا أنّ الزوج شيستر نصاب كبير جداً هرب من أميركا بأموال عدد من ضحاياه يحملها في حقيبة لا تفارقه، ونكتشف أن زوجته لا تعلم سره، يحدث بينه وبين المحقق الخاص صراع يؤدي لقتل المحقق صدفة، لكنه يقول لزوجته إن الرجل أغمى عليه أثناء شجارهما، وإنه سيعيده إلى غرفته، وندرك من هذا الموقف أن الزوجة الشابة مغلوبة على أمرها تماماً، وأنها تثق في زوجها ثقة عمياء لدرجة تدفعها إلى تصديق أي شيء يقوله حتى لو كان يبدو غير منطقي، لأنها ببساطة لا تمتلك سوى خيار عدم تصديقه، وبينما يسير شيستر حاملاً جثة المحقق الخاص في ممرات الفندق يفاجأ بالشاب رايدال عائداً إلى الفندق لكي يعطي زوجته شيئاً نسيَته في التاكسي الذي أعادهم إلى الفندق بعد سهرهم سوياً، يوهمه شيستر أنه فوجئ بهذا الرجل السكران يطلب منه أن يدخله إلى غرفته قبل أن يفقد الوعي، ويطلب منه مساعدته في حمله، وأثناء حملهما للرجل يشاهدهما بعض نزلاء الفندق، ومن هنا يبدأ تورط رايدال مع شيستر وزوجته دون أن يدري، وهو التورط الذي سيدفع ثمنه غالياً كما سنرى مع تصاعد أحداث القصة.

برغم أن هذه البداية جاءت مفاجئة ومتميزة، إلا أن الفيلم بعد ذلك لم يحسن استغلالها، لنرى أن رايدال يوافق على التورط مع الثنائي بعد انكشاف الجريمة التي ارتكبها الزوج، لمجرد أنه معجب بالزوجة الشابة التي لمس جفاف علاقتها بزوجها، دون أن يقدم الفيلم هذه الموافقة بشكل متصاعد، يفسر لنا لماذا تعجب الزوجة الشابة به لدرجة أنها يمكن أن تضحي بزوجها من أجله، لاحظ أن الزوج لا يبدو كريهاً أو طاعناً في السن أو منفراً أو عاجزاً على طريقة رواية "عشيق الليدي تشاترلي" الشهيرة مثلاً، وكل ما يقوم به من أفعال تغضب زوجته لا يمكن تصور أنها فوجئت بها لأول مرة، صحيح أنه يعاملها عندما يسكر بشكل فظ، لكنه ليس قاسياً أو وحشياً لكي يدفعها للتفكير في غيره.

ربما لعب اختيار الممثلين هنا دوراً سلبياً، لأنّ فيغو برغم أنه أكبر سناً من كريستين وأوسكار إلا أنه في النهاية يبلغ من العمر 55 عاماً، ويبدو عمره على الشاشة أصغر من ذلك، كما أن أوسكار لا تبدو لديه مواصفات جمالية يمكن أن تدير رأس كريستين نحوه، لذلك تشعر وأنت تتفرج أن هناك رغبة في دفع العلاقة من خارجها وليس من داخلها عبر تطورات متصاعدة، خاصة أن المخرج هنا لا يريد أن يفقد إيقاع الفيلم الذي يقدمه منذ البداية في قالب تشويقي وليس في قالب رومانسي، وهو قالب فرض عليه أن يقدم العلاقة بشكل مقنع دون فكرة "استحالة تفسير الغرام" التي تعتمد عليها الأفلام الرومانسية.

متابعة مشوار حسين أميني تكشف لك أن أهم أفلامه كانت مأخوذة من أعمال أدبية مهمة لتوماس هاردي وهنري جيمس وإيلمور ليونارد وإيه مايسون وجيمس ساليس وجون لوكاريه، وهو يعتز بذلك جداً ويقول في حوار قرأته له مع مجلة "وورد آند فيلم" إنه يتعجب ممن يعتبرون أن السيناريست الأكثر تميزاً هو من يقوم بكتابة سيناريو غير مقتبس، لأنهم لو جربوا اقتباس الأعمال الأدبية لأدركوا مدى صعوبة تحويل العمل الأدبي إلى فيلم سينمائي، وهو المطب الذي وقع فيه حسين هذه المرة خصوصاً عندما تصدى هذه المرة لتقديم عمل معتمد على رواية بوليسية، بعيداً عن الأعمال ذات المنحى الكلاسيكي التي برع فيها من قبل.

يعتمد حسين أميني في هذا الفيلم على رواية للكاتبة الأميركية الراحلة باتريشيا هايسميث (1921 - 1995) والتي اشتهرت لها روايتان تم تحويلهما إلى فيلمين أصبحا من كلاسيكيات السينما، هما "غريبان في قطار" فيلم هيتشكوك العظيم، وفيلم "مستر ريبلي الموهوب" إخراج أنتوني مانغيلا المدهش، لكن حظها مع حسين أميني هذه المرة لم يكن كحظ روايتيها السابقتين، لأن ما يسمح به العمل الأدبي من وصف دقيق للمشاعر وتناميها وتطورها، لم يجد طريقه إلى الشاشة بسبب رغبة المخرج في تقديم عمل سريع الإيقاع طبقاً لمتطلبات النوع الذي اختاره لفيلمه، وهو ما جعل كثيراً من الأحداث التي يفترض أن تصعق المتفرج من شدة مفاجأتها، تدفعه بدلاً من ذلك للتساؤل لماذا إذن يوافق البطل والبطلة على توريط نفسيهما مع مجرم هارب مثل الزوج، طالما أنه لا يمتلك ما يجبرهما على التورط معه حتى النهاية؟

اسم الفيلم ليس منفصلاً عن الأساطير الإغريقية التي تعتبر أنّ الإله جانوس ـ والذي تم نسبة شهر يناير أو جانيوري إليه ـ هو الإله المسؤول عن التغيرات والانتقالات في حياة المخلوقات، ولذلك يتم عادة رسمه بوجهين، أحدهما ينظر إلى الماضي والآخر ينظر إلى المستقبل، وهو ما تقدمه الرواية والفيلم من خلال حيرة البطلة التي تنظر إلى الماضي ممثلاً في زوجها وإلى المستقبل ممثلاً في الشاب الذي دخل حياتها أثناء انقلاب هذه الحياة رأساً على عقب فزادها حيرة وارتباكاً وتشتتاً، وأعتقد أن ردود الأفعال الباهتة جماهيرياً في استقبال الفيلم، والحفاوة النقدية المتوسطة التي تسامح بعضها مع المخرج بسبب صحيفة سوابقه المشرفة، كلها يمكن أن تجعل حسين أميني ينظر بحيرة مماثلة إلى وجه ماضيه كسيناريست متميز ووجه مستقبله كمخرج راغب في تقديم سينما أفضل، وهي حيرة ربما تستفيد منها كمشاهد في أعماله القادمة كمخرج، لكنها لن ترد إليك شعورك بضياع فرصتك في مشاهدة فيلم كان كل شيء فيه يعد بأن يكون متميزاً، وإذا كنت تعتقد أنني كنت قاسياً في حكمي عليه وفي شعوري بضعفه الإخراجي، فلعلك تدرك مدى وجاهة ما قلته حين تعرف أنه منذ أن ظهر فيلمه هذا في عام 2014، لم يخرج فيلماً آخر حتى الآن.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.