انسحاب واشنطن من مجلس حقوق الإنسان: الحسابات السياسية والتداعيات المرتقبة
في خطوة تعكس التحولات العميقة في السياسة الخارجية الأميركية، أعلنت واشنطن انسحابها من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، متهمة إياه بالتحيز ضد إسرائيل وفشله في معالجة انتهاكات حقوق الإنسان بشكل متوازن.
هذه الخطوة لم تكن مجرد قرار دبلوماسي عابر، بل تمثل جزءًا من توجه أوسع لواشنطن نحو الانسحاب من المؤسسات متعددة الأطراف، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل النظام الدولي لحقوق الإنسان.
تراجع الدور الأميركي.. فراغ تملؤه الأنظمة الاستبدادية؟
لطالما شكلت الولايات المتحدة قوة محورية في مجلس حقوق الإنسان، رغم انتقاداتها المستمرة لطريقة عمله. ومع انسحابها، يبرز تحدٍّ أساسي: من سيملأ هذا الفراغ؟ قد يجد المجلس نفسه أكثر تقبلًا للأجندات، التي تخفف الضغط على الأنظمة المتهمة بانتهاكات حقوقية جسيمة. وهذا يعني أن آلية المساءلة الدولية قد تضعف، مما يفتح المجال أمام مزيد من القمع وانتهاك الحقوق دون خوف من ردود فعل دولية صارمة.
القضية الفلسطينية.. خسارة أداة ضغط دولية؟
من بين أكثر القضايا تأثرًا بهذا الانسحاب، تبرز القضية الفلسطينية، حيث كان مجلس حقوق الإنسان واحدًا من المنصات الأممية والدولية، التي تسلط الضوء على الانتهاكات الإسرائيلية. انسحاب واشنطن قد يفك جزئيا العزلة الدولية عن إسرائيل، خاصة أن الولايات المتحدة طالما دافعت عن تل أبيب داخل المجلس، معتبرة أن القرارات الصادرة عنه تتسم بعدم التوازن. غيابها قد يؤدي إلى تراجع تأثير المجلس في هذا الملف، ما يعني عمليًا تقليص الضغط الدولي على إسرائيل فيما يخص الاستيطان والانتهاكات في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وفي هذا السياق، وصفت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، قرار إسرائيل، التي أعلنت بدورها أنها سوف تنسحب من المجلس، بـ"الخطير للغاية"، محذرة من تداعيات هذا القرار على الجهود الدولية لتعزيز حقوق الإنسان وحماية المدنيين في الأراضي الفلسطينية. هذا التصريح يعكس مخاوف متزايدة من أن يؤدي غياب الضغط الدولي إلى تصعيد سياسات القمع والاستيطان دون رادع حقيقي.
"عقيدة ترامب" في السياسة الخارجية
قرار الانسحاب لا يمكن فهمه بمعزل عن الاستراتيجية الكبرى لإدارة ترامب التي اتسمت بالتركيز على المصالح الوطنية المباشرة والتخلي عن الالتزامات الدولية التي لا تحقق مكاسب سياسية أو اقتصادية واضحة لواشنطن. هذا النهج، الذي تجلى أيضًا في الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومراجعة المشاركة الأميركية في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، يعكس رؤية ترى أن الانخراط في المنظمات الدولية يعرقل حرية الحركة الأميركية بدلًا من تعزيزها.
أوروبا في مواجهة التحدي
على الصعيد الدولي، ستجد الدول الأوروبية نفسها مضطرة لتعويض الغياب الأميركي للحفاظ على الحد الأدنى من فاعلية المجلس الأممي لحقوق الإنسان. الاتحاد الأوروبي قد يسعى إلى تعزيز دوره كمدافع عن حقوق الإنسان عالميًا، لكنه يفتقر إلى الثقل السياسي والاقتصادي الذي كانت توفره واشنطن، ما قد يجعله أقل قدرة على فرض أجندة حقوقية مؤثرة.
لا شك أن المجلس واجه انتقادات حادة على مدار السنوات الماضية، سواء بسبب ما اعتبر "ازدواجية معايير" أو بسبب عضوية دول ذات سجل أسود في مجال حقوق الإنسان، إلا أنه مع ذلك، يبقى أحد أهم الأدوات الدولية القادرة على المساهمة في حماية حقوق الإنسان وصد الانتهاكات الحقوقية الجسيمة. لهذا، فالتخوف من الانسحاب الأميركي يكمن في دفع قوى أخرى، إلى إعادة تشكيل النظام الحقوقي الدولي وفق توازنات جديدة لا تصب بالضرورة في مصلحة القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
في الختام، انسحاب واشنطن ليس مجرد خطوة إجرائية، بل مؤشر على تحول عميق في النظام الدولي. وإذا استمرت القوى الكبرى في الانسحاب من المؤسسات الأممية، فقد نجد أنفسنا أمام عالم أقل التزامًا بمبادئ حقوق الإنسان وأكثر انغماسًا في حسابات القوة والمصلحة.