انحراف مهني

25 يناير 2025
+ الخط -

لا أكاد أصدّق أن مناضلات شأن عام عملن ويعملن منذ عقود، وبكلّ ما أوتين من قوّة لمحاربة العنف الذي تتعرّض له النساء في المنزل وحمايتهنّ منه بسنّ قوانين تؤمّن ذلك، اخترن، من دون ذرّة تردّد، إعلاناً، على طريقة الصحف الصفراء، عرّضن من خلاله الشعب اللبناني مكلوم الوجدان الجماعي، لعنف أفظع، عبر استخدام أسلوب تحذيرات العدو الإسرائيلي في عدوانه الأخير على لبنان، بإخلاء المباني السكنية لقصفها وتدميرها، التي وسمت وعينا بالرعب والإهانة، واستخدامها لحثّ المُعنّفات على "إخلاء بيوتهنّ التي يتعرضن فيها للعنف"، مرفقين، تماماً كما كان يفعل الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، تحذيرهم الإعلاني بخرائط تقلّد تلك التي كان ينشرها العدو على منصّة إكس، وقد رُسم الهدف المفترض فيها بالأحمر!

كلّ ذلك من أجل حملة إعلانية تهدف، حسب منظمة "كفى عنف واستغلال"، صاحبة الإعلان المشين، إلى لفت انتباه الرأي العام اللبناني للعنف الذي تتعرّض له النساء في منازلهنّ، وهي منازل قد لا تكون موجودة بعد تحذيرات أدرعي، أي قد تكون نُسِفَت، وربما فوق رؤوسهنّ ورؤوس عائلاتهنّ دون تفريق بين معنِّفٍ ومعنَّفة، بعد اتهاماتٍ باطلة بكونها مخازن سلاح للمقاومة أو أنها تؤوي مقاومين.

يا لهذا الوجدان الوطني المتماسك النسيج! يا للمراعاة!

هكذا، لم تجد المنظمة التي يُسجّل لها بالمناسبة عملها الجاد الذي امتدّ لسنوات، وشمل، إضافة إلى الميداني، نشاطاً قانونياً فعالاً لتغيير القوانين المُجحفة بحقّ النساء، لم تجد مشكلة في رشّ الملح على جروح المواطنين التي ما زالت مفتوحة، وذلك بتذكيرهم بذلك العنف المُهين الذي تعرّضوا له، وخصوصاً في ظلّ عجز الدولة اللبنانية، إن كانت لا تزال قائمة أصلًا، عن حمايتهم وحماية ممتلكاتهم. 

اختارت منظمة "كفى" تعنيف كامل المجتمع، بما فيه النساء المعنّفات اللواتي تبتغي حمايتهن، فصرن معنّفات مرّتين

أي باختصار، اختارت المنظمة تعنيف كامل المجتمع، بمن فيه تلك النساء المعنّفات اللواتي تبتغي حمايتهنّ، فصرن معنّفات مرّتين.

يقول الإعلان: "إنذار عاجل إلى سكان المنازل وتحديداً النساء الموجودات في الغرف المحددة على الخرائط المرفقة. أنتنّ موجودات في أماكن تقع تحت سيطرة شخص معنِّف، من أجل سلامتكنّ يجب وضع خطة إجلاء للخروج من دائرة العنف".

بعد الضجة التي أثارها الإعلان واستهجانه بشكل واسع محلياً وعلى وسائل التواصل، قامت المنظمة بسحبه من التداول بعد محاولاتٍ للتبرير بصياغاتٍ فارغة لم تقنع أحداً، بل زادت الطين بلة، كالقول إنّ المنظمة أرادت فكرة "صادمة" للرأي العام من أجل حثّه على التحرّك، مقدّمة أرقاماً عن ضحايا العنف وتأخر البتّ بقوانين تحمي النساء في البرلمان اللبناني. 

لا أعرف ما هو نوع الصدمة التي أرادت المنظمة إحداثها، وما الذي كانت تتوقّعه؟ لقد سبق أن قامت بحملة أخرى خلال الحرب الإسرائيلية على البلاد، لافتة النظر ومنبّهة، عن حقّ هذه المرّة، إلى ما قد يكون معاناة النساء النازحات خلال الحرب في مراكز الإيواء المؤقّت من عنف أو تحرّش. كان ذلك صائباً. يومها قال الإعلان إنّ "اعتداء لا يبرّر اعتداء" (مع أن الأصح القول: عدوان لا يبرّر اعتداء)، صحيح. لكنها هذه المرّة ارتكبت خطأً فظيعاً بمضيّها في محاولة استثمار ربط الأحداث التي نعيشها ويعيشها الرأي العام اللبناني، بقضية العنف ضدّ النساء لإثارة اهتمامه بهذه القضية الأخيرة. 

هكذا، وبدلاً من الصدمة الإيجابية التي توقعتها "كفى"، أيقظت بدلاً منها مشاعر "التروما" التي أصابتنا جميعاً في الحرب الهمجية الأخيرة، فحصلت على صدمة استياء شعبي وإعلامي عارم للخيار الفظّ الذي، إن نمّ عن شيء، فعن عطل خطير في جسم الوجدان الجمعي للبنانيين، وعن قصور في الوعي لما نتعرّض له، وفوضى أولويات والكثير من البلادة لدى كل من صاحب الفكرة، متبنيها، منفذها والمروّج لها. 

التبلّد بالمشاعر تجاه ضحايا العدوان الإسرائيلي، بمن فيهم ربات البيوت التي كان العدو يدمر مساكنهن بعد تحذيرات بالإخلاء، يكاد لا يصدّق

بدا كما لو أن هؤلاء القيّمين على الحملة كانوا جميعاً يعانون من نوع من انحراف مهني عطّل إحساسهم بآلام الجماعة التي ينتمون إليها، لصالح "موضوع نضالهم" (أم الأصح أن نقول وظيفتهم؟) وحده، أي النساء المعنّفات منزلياً. كما لو أنّ التعاطف مع من يعانون من الظلم، أصبح بسبب ذلك الانحراف المهني، مقتصراً في وعيهم على هذه الفئة، دون الاكتراث لمشاعر بقية المجتمع. نوع من اختصاص، لا علاقة لهم بما يتجاوزه. 

لذا، لا يمكن اعتبار المشكلة خطأً بسيطاً تُنهى نتائجه بسحب الإعلان والاعتذار عنه. فحادثة كهذه تعني أشياء خطيرة أعمق من مجرّد قلّة ذوق وفظاظة إعلانية. 

حادثة كهذه تعني أن هناك فئة من اللبنانيين تعاني من نقص في تقدير شعور مواطنين آخرين منكوبين، لمراعاتهم. ليس عن سوء نية. بل هي فعلياً فشلت بتقدير حجم الألم، وعمق التروما، والوقت الذي سيتطلّبه انتهاء ذلك الحداد. هذا يعني أن هذا التبلّد بالمشاعر تجاه ضحايا العدوان الإسرائيلي، بمن فيهم ربات البيوت اللواتي كان العدو يدمر مساكنهنّ بعد تلك التحذيرات بالإخلاء، لا يكاد يصدّق.

يتبنى اللبنانيون أحياناً أساليب لا يتقنونها. هناك نوع من تلقائية الاستهلاك للأفكار، نوع من الثقة بالفهلوة الشخصية أو الاستخفاف بالتجريب. 

إن اردتم اتباع أسلوب الصدمة، فعليكم بأنواع من الدراسات للسوق واتجاه الرأي العام لا حصر لها، وإلا فإنّ استخدام الأساليب دون معرفة كافية سيفضي إلى هذا النوع من النتائج الكارثية. 
حسناً، حصلتم على الصدمة، فماذا كانت النتيجة غير النفور والاستهجان، إضافة بالطبع إلى سيل الشتائم للمنظّمة ولمن وضع الإعلان؟ أردتم استفزاز الرأي العام للاهتمام بمسألة تعنيف النساء والتحرّك لإقرار القوانين؟ لكن إعلانكم هذا كان أشبه بالصفعة المفاجئة للرأي العام. 

وهي صفعة، كان من الممكن في توقيت آخر، أن يدير لها خده الأيسر، لكني أشك في أنه سيفعل حالياً. فلا شك أنّ "أفكاراً" أقل تسامحاً تراوده. صدقوني.

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى