انتصار للمودعين اللبنانيين في مواجهة اللوبي المصرفي
هلا نهاد نصرالدين

منذ نحو شهر، كتبتُ مقالاً بعنوان "انتصار جديد للمصارف اللبنانية"، تناولت فيه تعيين كريم سعيد حاكماً جديداً لمصرف لبنان، وهو شخصية وُصفت بأنها مقرّبة من المصارف واعتُبرت مرشّحها الأبرز في تلك المرحلة. كتبت حينها: "أتى كريم سعيد… ليُسطّر هزيمة جديدة لأولئك الذين تأملوا أن يحمل العهد الجديد إصلاحاً وتغييراً. ورغم الآمال الكبيرة التي عُلّقت على هذا العهد، إلا أن بعض الأمور في لبنان لا تزال عصيّة على التغيير، خاصة في ظل استمرار هيمنة قوى المصارف والنفوذ المتجذّر في المؤسسات المالية".
اليوم، ألاحظ أنّنا في لبنان، كمودعين، غالباً لا نحتفي بانتصاراتنا، حتى الصغيرة منها، بقدر ما نرصد هزائمنا وانتصارات اللوبي المصرفي. لذلك، أخصّص هذه المساحة للحديث عن انتصار للمودعين، نأمل أن يكون بداية لسلسلة انتصارات تضمن عودة الودائع إلى أصحابها.
سُجّل هذا الانتصار في إقرار قانون تعديل السرية المصرفية، الذي حاول نواب المنظومة تقليص مفعوله الرجعي للحدّ من فعاليته. التعديلات الجديدة تتيح للجهات الرقابية، كمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف، الاطلاع على بيانات العملاء، بما يشمل الأسماء والجنسيات والأعمار.
بدايةً، أقرّ مجلس الوزراء اللبناني في جلسته المنعقدة في القصر الجمهوري بتاريخ 27 مارس/ أذار 2025 مشروع قانون لتعديل مواد من قانون السرية المصرفية لعام 1956 ومادة من قانون النقد والتسليف لعام 1963. وقد شمل التعديل إدخال مفعول رجعي يمتدّ لعشر سنوات من تاريخ صدور القانون الجديد، بدلاً من حصره بتاريخ صدور القانون رقم 306 في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2022. في البداية، حاول بعض الوزراء حصر الأثر الرجعي ابتداءً من 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أي بعد فترة الهندسات المالية والأزمة المصرفية، ما كان ليترك تلك الفترة من دون مساءلة حقيقية. إلا أنّ هذا التوجّه لم يمرّ، وتمّ تعديل النصّ ليمتدّ الأثر الرجعي إلى عشر سنوات، أي منذ عام 2015، ما يتيح للجهات المختصة مراجعة العمليات المصرفية التي جرت في تلك الفترة وأسهمت في الأزمة المالية التي ظهرت منذ تشرين الأوّل 2019.
أبواق المصارف تستهدف النواب التغييريين بهدف التضليل وتشويه صورتهم في عيون الناس، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات النيابية المقبلة
أُحيل القانون بعدها من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب، حيث حاول نواب المنظومة في اجتماعات اللجان المشتركة مجدّداً الحدّ من المفعول الرجعي، لكنهم لم ينجحوا. خلال الاجتماعات المغلقة للجان المشتركة، برز نواب التغيير المنبثقون عن احتجاجات 17 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019، وكانوا سدًّا منيعًا في وجه محاولات تقويض القانون المتعلّق برفع السرية المصرفية. ورغم الانتقادات التي تطال النواب التغييريين بين الحين والآخر، لكنّهم أثبتوا خلال السنوات الماضية أنهم الأكثر عملاً وجدية واحتراماً لإرادة الناس. الشعب انتخبهم ليكونوا صوتًا لهم في محاسبة من أوصلنا إلى هذا الدرك، وبالفعل قد قاموا بدور أزعج المنظومة، وتحديداً لوبي المصارف، الذي باتت أبواقه تستهدف النواب التغييريين بهدف التضليل وتشويه صورتهم في عيون الناس، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات النيابية المقبلة.
وفي النهاية، أُقرّ القانون في الجلسة العامة لمجلس النواب، ليشكّل انتصارًا للبنانيين عموماً والمودعين بشكل خاص، على أمل أن تتحقّق المحاسبة الحقيقية للذين حرموا اللبنانيين من ودائعهم وتركوا المواطنين يتكبّدون المعاناة على أبواب المصارف والمستشفيات وشتّتوا الطلاب في الخارج.
إقرار التعديلات على قانون السرية المصرفية يُعدّ خطوة إصلاحية مهمة تستحق الاحتفاء، إذ يمهّد الطريق أمام إصلاحات أوسع
أما دوافع التعديل الأساسية، فمع الأسف، لم تكن نابعة من رغبة حقيقية في المحاسبة، بل جاءت استجابة لضغوط خارجية، وتحديداً لمطالب صندوق النقد الدولي. تهدف هذه الإصلاحات إلى تعزيز الشفافية المالية، مكافحة الفساد والتهرّب الضريبي، وتسهيل عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي المتعثر.
المعركة مستمرة على مختلف الأصعدة، لا سيما إعلامياً، حيث تتعرّض المنصّات المستقلة والنواب التغييريون لحملات تشويه وتضليل متزايدة. وكلما تعاظمت هذه الحملات، تأكدنا أنّ المصارف تشعر بالخطر وتسعى عبر أبواقها إلى تشويش عقول الناس وإلهائهم عن جوهر الأزمة، خصوصاً في ظلّ النقاشات الدائرة حول القوانين الثلاثة الرئيسية: قانون السرية المصرفية، قانون إعادة هيكلة المصارف، وقانون إعادة الانتظام المالي أو تحديد الفجوة المالية وتوزيع المسؤوليات المتعلّقة بودائع الناس المحتجزة في المصارف اللبنانية منذ أكثر من خمس سنوات.
وبالتالي، فإن إقرار التعديلات على قانون السرية المصرفية يُعدّ خطوة إصلاحية مهمّة تستحق الاحتفاء، إذ يمهّد الطريق أمام إصلاحات أوسع تشمل إعادة هيكلة المصارف وإعادة الانتظام المالي، بما يضمن حماية حقوق المودعين وتحقيق المحاسبة الفعلية لرؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف والسياسيين الذين استغلوا الأزمة. فلا بدّ من وضع أسس متينة لإصلاح القطاع المالي في لبنان، واستعادة الثقة بالنظام المصرفي، بما يتوافق مع متطلبات المجتمع الدولي ويصب في مصلحة جميع اللبنانيين.

