انتصار على الفاشية؟

06 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 19:23 (توقيت القدس)
+ الخط -

كان المشهد مُنعشاً. ها هو حدث على مستوى الكوكب يُعفينا، ولو سحابة يوم، من وابل الصور الكريهة والأخبار المُخلخلة للعقل والروح والتي تحدث في عالمنا، هنا، في هذه المنطقة المنكوبة من القارة الأسيوية. مشهدٌ أراح أبصارنا التي يجري قصفها يومياً بصور شخصين كريهين لا تكاد جريدة أو نشرة أو لحظة إخبارية تخلو من ذكرهما أو ذكر أفعالهما المُسمّاة تجاوزاً سياسية. 

كلُّ يوم، كانت صور أحدهما، أو صور ضحاياهما، تنتظرني على غلاف الجريدة التي وضعها البوّاب أمام بابي. كان في تكرار صورهما التي تنهمر علينا من الشاشات بإلحاح ورتابة وإصرار، مفعول التعذيب الصيني. عطشت العين لشيء آخر، فاعتلت الصين فجأة المشهد. 

عرضٌ عسكري مهول كانت تبثّه بشكل مباشر القناة الصينية الناطقة باللغة العربية في الذكرى الثمانين للانتصار على اليابان وعلى الفاشية في الحرب العالمية الثانية. 

ولأننا في عالم عاد الفاشيون لاحتلاله، خاصة في أميركا وفي أوروبا ميدان الحرب العالمية تلك، تسمّرت أمام الشاشة لمتابعة العرض العسكري المهول للجيش الصيني. 

عرضٌ على مقاس قارة وشعب استطاع خلال ثمانية عقود فقط، وباعتماده على نفسه، الخروج من الديون والفقر المُدقع والتهميش السياسي. وها هو اليوم يقدّم نفسه قوّة صاعدة، تُطرح بديلاً لنظام عالمي بات، بشهادة توحّشه المتفلّت من أيّ قانون إنساني أو أخلاقي، في أواخر أيامه. 

كان العرض العسكري الصيني استعراضاً للقوّة وليس مجرّد عرض عسكري، أوصل، وبمشهد فصيح، ما تريد الصين أن تقوله عن استعدادها لكافة السيناريوهات

بداية شدّتني إلى المتابعة أصوات كورال الجيش الضخم. يا إلهي. ما هذا؟ كم عدد فرق الكورال؟ من كم منشد أو منشدة تتألف كلّ فرقة؟ حاولت أن أحصي من دون نجاح، فلقد كانت الصورة تتنقل من زاوية إلى أخرى وتتفنّن في استعراض مشهد الانضباط الهندسي للأعداد الضخمة. عشرات الآلاف من المُنشدين والمُنشدات ومن العازفين والعازفات في فرق موسيقية مُقسّمة حسب نوع الآلات، فبدت كما في قطعة قماش ضخمة فُرِشت على مساحة شاسعة، مُكرّرة الزخرفة بالعنصر ذاته. أمّا الصوت الخارج من عشرات آلاف الحناجر النسائية والذكورية، فقد كان القلب يخفق لعظمته، عظمة التقاء الناس على هدف، هو هنا نوتة موسيقية يؤدّونها سوياً. 

لا أفهم بالعتاد العسكري وأنواع الفرق التي كان المُعلّق على البثِّ المُباشر يؤكّد، باللغة العربية، أهميتها. كما في الصواريخ البالستية العابرة للقارات، وأهمها على ما يبدو صاروخ باستطاعته عبور عشرين ألف كيلومتر! مسيّرات غواصة تحت المياه، إضافة لأنواع من الطائرات ووحدات الذكاء الاصطناعي والأخرى المؤتمتة... لكني جلست أراقب الرئيس الصيني خلال تجواله على البساط الأحمر التشريفي مع حليفيه فلاديمير بوتين وكيم جونغ إيل، ثم تجواله بسيارة مكشوفة لتفقّد الجنود والاستعراض ميدانياً.

حاولت تقدير عدد الجنود المُشاركين في هذا الاستعراض "المُصغّر" للجيش الصيني. هكذا، عيّرت الساعة لحساب المدّة التي سيستغرقها الرئيس الصيني للمرور بكامل الاستعراض. كانت السيارة تسير بسرعة أربعين أو خمسين كلم، ولقد استغرق تطواف شي جين بينغ من بداية الاستعراض لنهايته حوالي العشر دقائق، لم تتوقف خلالها سيارته أو تسرع أو تخفّف بتاتاً. 

أي أنّه وبحسبة بسيطة، كان هناك انتشار لما قد يفوق المئة ألف جندي على امتداد حوالي سبعة كيلومترات، من مختلف الفرق، كلّ في زيه، كان الرئيس يُحييهم بقوله "مرحبا يا رفاق"، فتردّ عليه الفرقة "مرحبا يا ريس". في حين جلس المدعوون الأجانب، تحت صورة ماو تسي تونغ، يراقبون هذا العرض العسكري الذي كان بالطبع، استعراضاً للقوّة وليس مجرّد عرض عسكري، أوصل، وبمشهد فصيح، ما تريد الصين أن تقوله عن استعدادها لكافة السيناريوهات. 

الفاشيون ينتصرون في كلّ مكان، وحتى في الأماكن التي لم يتمدّدوا فيها سابقاً

كان المشهد مستفزّاً للغرب الذي لم يتأخّر عن التعبير عن غضبه، تارة على لسان ترامب الذي استفزّته صورة الزعماء الثلاثة المكروهين غربياً، فاتهمهم بالتآمر ضدّ أميركا، وتارة على لسان مسؤولة السياسة الخارجية كايا كالاس في الاتحاد الأوروبي التي قالت إنّ هناك "نظاماً عالمياً جديداً" في طور التشكّل، معتبرة أنّه "تحد مباشر للنظام الدولي القائم".

لست صينية بالطبع لكي أكون سعيدة بهذا، وإن كان المشهد مُنعشاً للبصر من باب التغيير، ومُرضياً عاطفياً، بمجرّد استفزازه لأعدائنا الكريهين.

لكن، ونظرًا لخلو الساحة من أيّ أمل، كثر يتساءلون إن كانت الصين ستقف بجانب قضايانا، وأكثر منهم من لا يثقون، ومع ذلك يأملون. ربّما بسبب السياسات التي تطبّقها الصين اليوم، خاصة في الاقتصاد والعلاقات بين الدول والقائمة على المصالح المشتركة كما في سياسة رابح/رابح، بدلًا من أسلوب الخوّة والحرب التجارية بالضرائب التي تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية. 

لكن عالم اليوم ليس مثل الأمس. الفاشيون ينتصرون في كلّ مكان، وحتى في الأماكن التي لم يتمدّدوا فيها سابقاً. الفاشيون في فلسطين يبيدون البشر والحجر والوعي والقيم الإنسانية يومياً، وببثّ مباشر على الشاشات، فهل تقف الصين التي تحتفل اليوم بانتصار الأجداد على الفاشية بجانب فلسطين؟ 

هناك معارك يخوضها المرء ولو كانت لا مصلحة له إلا تحقيق الانسجام مع مبادئه والإخلاص للقيم الإنسانية. وفلسطين بهذا المعنى، من هذا النوع من القضايا

قد يقول قائل: لم ستفعل وهي من الدول الأكثر تبادلًا تجاريًا مع إسرائيل؟ لقد بلغ ميزان التبادل التجاري الصيني مع الكيان العام الماضي أكثر من 19 مليار دولار، ما جعلها أكبر مصدر للسلع إلى إسرائيل. وهي تحتل المرتبة الثالثة بين المستوردين من الكيان. فلم تفعل؟ 

لكن الأمور في ظلّ الإبادة، لا يمكن أن توزن بالميزان ذاته. خاصة إن ادّعى أحد الأطراف القادرين على تغيير هذا الوضع أنّه قوّة بديلة عن هذه القائمة. 

فهناك معارك أخلاقية تتفوّق أحياناً، أو تعادل بالحدّ الأدنى، أولوية المصلحة الآنية. تلك المعارك، لقوّتها الأخلاقية، ترسّخ أسماء أبطالها في أذهان الناس، منتقلة في الوعي الجماعي، من جيل لجيل. هناك معارك يخوضها المرء ولو كانت لا مصلحة له إلا تحقيق الانسجام مع مبادئه والإخلاص للقيم الإنسانية. وفلسطين بهذا المعنى، من هذا النوع من القضايا. فهي الميدان الأكثر وضوحاً لعودة الفاشية بأكثر أشكالها عصرنة وتوحشاً. فهل تكون المكان الذي يُعلن فيه الحلف البازغ التزامه الأخلاقي والإنساني، ليبدأ منها الانتصار الجديد على الفاشية؟ 

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى