انتصار جديد لحزب المصارف في لبنان
هلا نهاد نصرالدين

منذ اندلاع الأزمة المالية والمصرفية في لبنان في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تعرّض البلد خلال السنوات الستّ الماضية لتحوّلات جذرية هزّت بنيته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ورغم التحقيقات التي كشفت عن فسادٍ مستشرٍ وتبييض الأموال داخل القطاع المصرفي ومختلف القطاعات في لبنان، وسجن حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، وتغيّر موازين القوى في البلاد بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، لا يزال ما يُعرف بـ"حزب المصارف" يحتفظ بنفوذ قوي، يُهيمن على المشهد الاقتصادي والسياسي في البلاد.
رغم أنّ كلّ المعطيات في البلاد تغيّرت، وبات هناك عهد جديد تأمّل به اللبنانيون خيراً، ووصل رئيس وزراء "يشبه الناس" وهو نفسُه مودع خسر أمواله في المصارف اللبنانية، ورئيس للجمهورية هو قائد الجيش، وتراجع نفوذ حزب الله وتقلّص دوره بعد عقود من الهيمنة على لبنان. تاريخيّاً، كلّ الفرقاء هُزموا في لبنان: المارونية السياسية والحريرية أو السنية السياسية والشيعية السياسية وكلّ الأحزاب الطائفية منيت بهزائم خلال العقود المنصرمة… إلا أنّ حزب المصارف والقوى المصرفية ما زالوا هن الأقوى، إذ استطاع تحالف المصارف تمديد ولاية سليم صفير، رئيس مجلس إدارة بنك بيروت، في منصبه رئيساً لجمعية المصارف، وهو يناهز الـ 80 عاماً، رغم شبهات أُثيرت سابقاً حول أعماله وشركاته في قبرص، كما كشف موقع "درج".
أتى كريم سعيد، شقيق السياسي اللبناني البارز فارس سعيد، ليُسطّر هزيمة جديدة لأولئك الذين تأملوا أنّ العهد الجديد سيحمل إصلاحاً وتغييراً، ورغم الآمال الكبيرة التي عُلّقت على هذا العهد، إلّا أنّ بعض الأمور في لبنان لا تزال عصيّة على التغيير، خاصة في ظلّ استمرار هيمنة قوى المصارف والنفوذ المتجذّرة في المؤسّسات المالية.
لا يزال "حزب المصارف" يحتفظ بنفوذ قوي، يُهيمن على المشهد الاقتصادي والسياسي في البلاد
لا شكّ أنّ كريم سعيد، الحاكم الجديد لمصرف لبنان، يتمتّع بخبرة طويلة في المجال المصرفي والمالي، إذ شغل سابقاً عضوية مجلس إدارة بنك الإمارات ولبنان قبل استقالته العام الماضي، ويترأس مجلس إدارة البنك فاروج نكريزيان، المستشار المالي لرئيس الجمهورية، ما أثار تساؤلات حول علاقات سعيد بالمنظومة السياسية والمصرفية.
الأخطر من ذلك هو ارتباط كريم سعيد بما يُعرف بـ"خطة هارفارد"، التي أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط اللبنانية، وتقترح الخطة تحميل الدولة الجزء الأكبر من مسؤولية الأزمة المالية والمصرفية عبر تحويل ودائع تفوق قيمتها 100 ألف دولار إلى دين عام على الدولة. هذه الخطّة، التي لاقت دعماً من جمعية المصارف اللبنانية، تُعتبر من أكثر الحلول إثارة للجدل، إذ يرى منتقدوها أنها تُحمّل المواطنين عبء الأزمة بدلاً من تحميل المسؤولية للمصارف، كما يُعرف عن سعيد تحفظه على التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وتفضيله التركيز على بيع قسم من احتياطي الذهب لتسوية مسألة الديون والودائع.
تعيين كريم سعيد يأتي في وقت حسّاس للغاية بالنسبة للبنان، إذ يُنتظر منه قيادة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي واستعادة الثقة الدولية والمحلية في النظام المالي للبلاد.
بعض الأمور في لبنان لا تزال عصيّة على التغيير، خاصة في ظلّ استمرار هيمنة قوى المصارف والنفوذ المتجذّرة في المؤسّسات المالية
النهج الذي يبدو أنّ كريم سعيد سيتبعه يُنذر بتحميل المودعين عبء الأزمة مرّتين: الأولى عندما فقدوا أموالهم في المصارف، والثانية عندما تتحمّل الدولة والمال العام مسؤولية سدّ الفجوة المالية التي خلّفتها الأزمة. هذا التوجّه يعكس انتصاراً جديداً لما يُعرف بـ"حزب المصارف"، بدعم ورعاية واضحة من رئيس الجمهورية في العهد الجديد.
يتمتّع كريم سعيد بعلاقاتٍ واسعة مع شخصيات نافذة في النظام اللبناني القائم، وهو مرشّح مدعوم من المصارف التي تسعى إلى تحميل الدولة مسؤولية الأزمة المالية، والتنصّل من أيّ التزامات تجاه المودعين، هو مدعوم خصوصاً من المصرفي رئيس مجلس إدارة بنك SGBL، أنطون صحناوي، وهو إحدى الشخصيات النافذة في لبنان. هذه العلاقات القوية مع مراكز النفوذ في السلطة عزّزت فرصه للوصول إلى منصب حاكم مصرف لبنان، رغم الجدل الكبير حول سياساته المقترحة، وهو مدعوم أيضاً من رئيس حكومة لبنان السابق نجيب ميقاتي، إذ يشغل نجل نجيب ميقاتي، ماهر، عضو مجلس إدارة في شركة أسّسها ويملكها سعيد.
تعيين سعيد جاء بعد تصويت في مجلس الوزراء، إذ حصل على 17 صوتاً مؤيداً مقابل سبعة أصوات رافضة. الجلسة شهدت مشادات حادة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء نواف سلام، الذي عارض تعيينه بشدّة، وهذا الانقسام يعكس التوتّرات السياسية العميقة حول إدارة المرحلة المقبلة، خاصة في ظلّ استمرار تداعيات الأزمة المالية والمصرفية.
حكومة نواف سلام وقفت في مواجهة كريم سعيد، ليجد سلام نفسه، مودعاً خسر أمواله، يحارب منفرداً مع عدد قليل من الوزراء دفاعاً عن حقوق المودعين. هذه المعركة تُخاض ضدّ منظومة مصرفية سياسية مترسخة، نتمنى ألّا تكون قد انضمّت إلى هذه المنظومة، التي نسعى جاهدين لمواجهتها، شخصيةٌ جديدة هي رئيس الجمهورية، الذي وعدنا في خطاب القسم أن يحمي حقوق المودعين.
أما بالنسبة لودائعنا التي أصبحت رهينة لدى "حاكم المصارف" الجديد، فإن مصيرها يبقى مجهولاً، وسط غياب أيّ حلول ملموسة أو ضمانات لاستعادتها. نشعر اليوم وكأننا عدنا إلى نقطة الصفر، إذ تضعف الآمال في تحقيق العدالة للمودعين أو محاسبة المسؤولين عن الأزمة… لكنّ المعركة مستمرة.

