الوعي الجريح: مأساة التمزّق بين العقل الناضج والقلب العاطفي
هل يُعدّ اجتماعُ عقلٍ ناضجٍ بقلبٍ عاطفيٍّ نعمةً تُفضي إلى عمقٍ إنسانيٍّ أسمى، أم لعنةً تُثقِل الوجود باللاجدوى والاحتراق؟ وكيف يمكن للفرد أن يتكيّف مع هذا التناقض الوجودي بين وعيٍ يُبصر عبث العالم بوضوح، وعاطفةٍ تظلّ مُصِرّةً على التورّط فيه؟ أيقود هذا الصراع الداخلي إلى نضجٍ أخلاقيٍّ ومعرفيٍّ أعلى، أم إلى انهيار الذات تحت وطأة الانفصام بين الفكر والشعور؟
حين يصبح الوعي عبئًا
لم تكن أقوال الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي مجرّد تأملات روحية أو عبارات شاعرية، بل كانت خلاصات وجودية تستند إلى معايشة مأساوية للذات البشرية. في قوله: "كارثة أن يجتمع عقل ناضج وقلب عاطفي في جسد واحد"، يضع إصبعه على جرح وجوديّ عميق: ذلك التمزق بين عقل يدرك وعاطفة تشعر. العقل الناضج يعي هشاشة العالم، خواء القيم، عبث التكرار، وقصر حياة الإنسان، بينما القلب العاطفي يرفض الحياد، يتمرّد على البرود، ويصرّ على التفاعل، الألم، والحب. فهل يمكن لهذين النقيضين أن يتعايشا في ذاتٍ واحدة دون أن تتهشّم من الداخل؟
العقل الناضج والعبء الوجودي
العقل الناضج ليس مجرّد أداة تحليل منطقي، بل هو موقف وجودي يرى الأشياء كما هي: بلا تجميل، بلا وهم، بلا تعزية. النضج هنا ليس اكتمالًا، بل خيبة، كما في فلسفة ألبير كامو الذي رأى أن الوعي بالعبث هو لعنة الإنسان الحديث. يقول كامو: "المعرفة تؤدي إلى اللاجدوى، إلى الانفصال، إلى القطيعة مع الحياة"، وهذا ما يجعل العقل الناضج أقرب إلى الاغتراب منه إلى الاطمئنان.
في فكر دوستويفسكي، النضج لا يخلّص الإنسان، بل يعزله. فشخصياته الأذكى، كإيفان كارامازوف، هي الأشد تمزّقًا: تعرف كل شيء، تفهم كل شيء، لكنها عاجزة عن الحب، عاجزة عن التسامح، عاجزة عن الانخراط العفوي في الحياة. إن النضج العقلي الذي لا يقابله احتضان وجداني متوازن قد يتحوّل إلى بركان من التناقضات.
القلب العاطفي كقوة مقاومة
في المقابل، القلب العاطفي ليس ضعفًا، بل احتجاجًا وجوديًا على برودة العالم. إنه الجزء من الإنسان الذي لا يستسلم. في وجه المنطق البارد والوعي الفجّ، يظل القلب يحتفظ بإرادة المعنى، بالمحبة، بالرغبة في الانتماء. وفي فلسفات مثل تلك التي قدّمتها سيمون فايل، نجد تمجيدًا للعاطفة النقية كطريق للحق والحقيقة، حيث كتبت: "الانتباه المحض، الخالص، هو شكل من أشكال الصلاة". هنا تصبح العاطفة طريقة لرؤية العالم، لا مجرد استجابة له.
لكن حين يتورّط القلب العاطفي داخل جسدٍ يعي تناقضات الوجود ويشكّ بكل شيء، تبدأ المعاناة. القلب يريد، والعقل يرفض. القلب يحب، والعقل يحذّر. وهكذا يعيش الجسد الواحد تمزقًا دائمًا بين إرادتين لا تتفقان.
التمزّق الداخلي كشرط إنساني
هذا الانقسام بين العقل الناضج والقلب العاطفي ليس استثناءً، بل هو مكوّن أساسي من التجربة الإنسانية الواعية. وربما هذه هي "الكارثة" التي يتحدث عنها دوستويفسكي، لا باعتبارها حادثًا طارئًا، بل قدرًا محتومًا لمن يختار أن يرى بعمق ويشعر بصدق. يقول الفيلسوف بول ريكور: "الإنسان كائن ممزق، لكنه ممزق بوعي".
ولعل ما يجعل هذا التمزّق كارثيًا، هو أن العقل لا يستطيع أن يبرّر القلب، والقلب لا يستطيع أن يطمئن العقل. فالمنطق لا يعترف بالعاطفة، والعاطفة لا تتقن الحساب. ومن هنا يظهر مأزق الإنسان: أن يحب ما يعرف أنه سيفقده، أن يؤمن بما يعرف هشاشته، أن يحيا وهو يرى الموت في كل شيء.
وهل من خلاص؟ بين نيتشه وكيركغارد ودوستويفسكي
حين نقرأ الفليلسوف الألماني فريدريك نيتشه، نجده يدعو إلى تجاوز الإنسان المتصدّع عبر خلق "إنسان أسمى" يدمج القوة بالعاطفة، المعرفة بالإرادة. أما الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد، فقد رأى أن الخلاص من التمزّق لا يأتي إلا عبر قفزة الإيمان – أن تؤمن بما لا يُصدق، أن تحب رغم اليأس، أن تقفز نحو المجهول.
دوستويفسكي، بخلافهما، لا يقدّم خلاصًا نظريًا. هو يترك شخصياته في العاصفة، يراها تتأرجح بين النور والظلمة، ويصوّر ببراعة أن الحلّ ليس دائمًا في العقل، ولا دائمًا في القلب، بل في الاعتراف الكامل بالتمزّق، بل في السكنى داخله.
فرضيّات حول هذا التمزّق
لعلّ هذه الحالة تمثّل لعنة وجوديّة تجعل صاحبها أكثر عرضة للقلق والانهيار، لكنّها في الوقت نفسه، تمنحه قوّة إبداعيّة خارقة كما في حالات الشعراء والمفكّرين الذين جمعوا بين الألم والرؤية. وقد تكون هذه "الكارثة" مرحلة من النضج الأخلاقيّ، يمرّ فيها الإنسان قبل أن يصل إلى حكمة تدمج الفكر بالشعور، لا تلغي أحدهما لحساب الآخر. وفي غياب الوعي والتأمل، قد تتحوّل هذه التناقضات إلى سبب في التبلّد الدفاعيّ، حيث يلجأ الإنسان إلى كبت مشاعره أو تجاهل وعيه، فقط ليستمرّ في العيش.
مديح الكارثة
إنّ اجتماع العقل الناضج والقلب العاطفي في جسدٍ واحد ليس مجرّد معاناة، بل هو دعوةٌ للعبور إلى عمقٍ إنسانيٍّ نادر. كارثة نعم، لكن من النوع الذي يفتح أفقًا للتجاوز، للتفكير، للإبداع، للصدق الداخلي. إنها ليست كارثة الانهيار، بل كارثة الكشف: أن ترى الحقيقة، وأن تشعر بها، وأن تتحمّل أن تعيش رغمها. وهذا، في نهاية المطاف، هو ما يجعل الإنسان إنسانًا.