المنصّات الرقمية وهندسة التعليم الحديث
تمثّل المنصّات الرقمية التعليمية أحد مظاهر الحداثة الرقمية في مجتمع المعلومات، فإلى زمن غير بعيد كان التعليم قاصرًا على المؤسّسات التعليمية وأقسام التدريس دون سواها، وفي ساعات وأيّام محدّدة، وكانت العملية التعليمية محصورة في الثلاثية المشهورة، وهي: المعلم والطالب والمعرفة. لكن مع التقدّم التكنولوجي وتطوّر وسائل الاتصال السلكي واللاسلكي، أصبحت "التكنولوجيا" طرفًا محوريا في العملية التعليمية، وأخذ التعليم يتسع مداه وتتطوّر أساليبه وتتيّسر إمكاناته، ليظهر نموذج جديد اسمه التعليم الافتراضي أو التعليم عن بعد، الذي غَيَّرَ بُعدَيْنِ أساسيين في العملية التعليمية بمفهومها التقليدي وهما: بُعد الزمان وبُعد المكان، ليصبح التعليم في أيّ وقت ومن أيّ مكان.
إنّ جيل اليوم هو جيل رقمي بامتياز في لغته وممارساته وسلوكه، وهو شغوف بكافة المستجدات الطارئة في عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، متابع لكلّ تفاصيلها وإبداعاتها بشكل يومي، وقد أثر ذلك على نمطه الفكري والاجتماعي والثقافي، فأصبح يجنح نحو منطق التحديث والتحسين في كلّ شيء.
وإزاء هذا التحوّل العميق في البناء السوسيوثقافي لمجتمعاتنا المعاصرة، لا تزال بعض جامعاتنا رهينة للأنماط التقليدية في هندسة الهياكل الإدارية والأقسام التعليمية والمراكز البحثية، خاصة ما تعلّق ببيداغوجيات التدريس، فلم تشهد نقلة نوعية موازية لمستوى التقدّم التكنولوجي الكائن في محيطها الاجتماعي، مما ساهم في تعميق الفجوة المعلوماتية بين بيئة التعلّم التي يزاول بها الأستاذُ مهامَه والطالبُ تعلّمَه؛ وبين الواقع التكنولوجي الآخذ في التطوّر بشكل مطَّرد.
إنّ جيل اليوم هو جيل رقمي بامتياز في لغته وممارساته وسلوكه
وحتى تصبح جامعاتنا ومؤسّساتنا التعليمية قادرة على مواكبة التغيّرات الاجتماعية والتأثير في فكر وسلوك المتعلمين، وجب بذل قصارى الجهد لتقليص الفجوة الرقمية بين الوسط التعليمي والمحيط الاجتماعي، هذه الفجوة التي تشهد اتساعًا كبيرًا ومتسارعًا أدّت إلى زهد الطلاب في التعلّم والبحث العلمي الجاد؛ فأوجدت العديد من المظاهر السلبية التي أضرَّت بمستوى البحث والمعرفة، كظاهرة العزوف عن حضور الدروس والمحاضرات، والتي من أسبابها عدم تحديث بيئة التعلّم، وبقاؤها بالصورة التقليدية التي باتت تفقد فعاليتها من الناحية البيداغوجية، إضافة إلى ضعف استخدام التكنولوجيا، وتفوّق الواقع الافتراضي بترسانته التكنولوجية على الواقع التعليمي الذي يظلّ بحاجة ماسة إلى التحديث من حيث التجهيزات والمهارات والبيداغوجيات.
ومن المظاهر السلبية الناجمة عن هذه الفجوة استفحال ظاهرة السرقة العلمية عن طريق احتراف أساليب القرصنة والاختراق والانتحال العلمي، والإسراف في النقل بدل البحث والتحليل، مما أدى إلى إضعاف القدرات الفكرية لدى الطالب وغياب الأمانة العلمية وروح البحث والمدارسة، جرّاء الاستخدام المفرط لهذه الوسائل، من دون ترشيد أو توعية لاستخدامها بطريقة هادفة وبيداغوجية.
الكم المعرفي المُتاح عبر الإنترنت لا يؤسّس بمفرده تعليمًا ومعرفة منظّمة
ومن المظاهر السلبية أيضا؛ تطوّر وسائل وأساليب الغشّ في الامتحانات مع بقاء نظام الحراسة على وضعه التقليدي، معتمدًا على يقظة الأستاذ في مواجهة وسائل تكنولوجية ذكية مركّبة على مختلف الأدوات بما في ذلك الأقلام وداخل الأذن، بحيث لا يمكن للأستاذ المراقب ملاحظتها بالعين المجرّدة، مما يؤكّد على أنّ مواكبة التطوّرات في طرق التعليم والتقويم ومختلف المهام البيداغوجية والإدارية باتت حتمية عاجلة.
ورغم أنّ المعرفة لم تعد حكرًا على الجامعات أو مؤسّسات التعليم، غير أنّ الدور البيداغوجي للجامعات في تنظيم المعرفة ومنهجية نقلها وترتيبها وتبسيطها، يبقى عملًا فنيًا ومهاريًا قاصرًا على ذوي الاختصاص من الأساتذة والباحثين، فالكم المعرفي المُتاح عبر الإنترنت لا يؤسّس بمفرده تعليمًا ومعرفة منظّمة، فلا بُدّ من وجود إطار منهجي تُنظّم من خلاله المعرفة وتوضع في بناء متناسق ومتكامل، وهذا الدور الذي تضطلع به هيئات التدريس بالجامعة، فالتعليم الرقمي لا يعني البتة إقصاء دور الأستاذ في العملية التعليمية أو التقليل من أهميته، بل إنّ دوره يزداد أهمية في شقه البيداغوجي والتقني والمهاري، لضمان إيصال المعلومات إلى المتلقي (الطالب) وتحقيق الكفاءات المستهدفة من هذه الطريقة التعليمية.