المشاعر بين العقل والجسد: رؤية فلسفية معاصرة

20 فبراير 2025
+ الخط -

تُعدّ المشاعر جزءًا أساسيًّا من تجربة الإنسان اليومية، وتؤثّر في تفكيرنا، وقراراتنا، وسلوكنا. ورغم كونها جزءًا غير مادي من تجربتنا الحيّة، فإنّ الفلاسفة منذ العصور القديمة حتى الفلسفة المعاصرة بذلوا جهودًا كبيرة لفهم طبيعتها ودورها. هل تُعدّ المشاعر مجرّد استجابات عاطفية فطرية أم أنّ لها دورًا معرفيًّا أعمق، يرتبط بتكوين الذات الإنسانية وعلاقتها بالعالم؟ هل المشاعر مجرّد ردات فعل جسدية يمكن التحكّم فيها أم أنها تمثل جزءًا أساسيًّا من تكوين الوعي البشري؟ 

في هذا المقال، سوف نتناول كيف جرى تناول فلسفة المشاعر عبر التاريخ، مع التركيز على الفلسفة المعاصرة والحديثة، وكيف يمكن تفسيرها في إطار العلاقة بين العقل والجسد والوجود.

المشاعر والعقل: من أرسطو إلى الفلسفة المعاصرة

في الفلسفة القديمة، اعتُبرت المشاعر جزءًا مهمًّا من الكائن البشري. أرسطو في "الأخلاق النيقوماخية" كان يعتقد أنّ المشاعر ليست فقط ردات فعل عاطفية، بل هي جزء من الحياة الأخلاقية. ووفقًا لأرسطو، يجب أن يتعلّم الإنسان كيفيّة التحكّم في مشاعره لتحقيق التوازن بين التهوّر والجمود العاطفي. من هنا، بدأت فلسفة المشاعر تُفهم كجزء من تكامل العقل والجسد.

بدأ العديد من الفلاسفة في النظر إلى المشاعر ليس فقط كاستجابات تلقائية، بل كعوامل تُساهم في تكوين وعينا الذاتي وفهمنا للعالم

أما في الفلسفة المعاصرة، فقد تطوّرت الفكرة لتأخذ طابعًا مختلفًا، حيث بدأ العديد من الفلاسفة في النظر إلى المشاعر ليس فقط كاستجابات تلقائية، بل كعوامل تُساهم في تكوين وعينا الذاتي وفهمنا للعالم. أحد الأمثلة على ذلك هو دانييل دينيت الذي يتعامل مع المشاعر كجزء من عمليات الدماغ والوعي. وفقًا لدينيت، فإنّ المشاعر هي جزء من النشاط المعرفي الذي يساعدنا على التأقلم مع محيطنا.

المشاعر كمعرفة: سبينوزا وفلسفة العلم

الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا، قدّم رؤية جديدة للمشاعر في عمله "الأخلاق"، فقد اعتبرها استجابات معرفية للعالم الذي نعيش فيه. يرى سبينوزا أنّ المشاعر ناتجة عن فهم الإنسان لخير أو شرّ الأشياء المُحيطة به. وفقًا له، فإنّ المشاعر كالغضب أو الفرح هي تصوّرات ذهنية ذات طابع عاطفي تجاه المواقف التي نواجهها. هذا يجعل المشاعر، من وجهة نظره، جزءًا لا يتجزّأ من فهمنا العقلاني للعالم. في هذا السياق، تقدّم فلسفة سبينوزا منظورًا يفصل بين "العقل" و"العاطفة" بقدر أقل، ويؤكّد أنّ العواطف ليست مفارقة للعقل، بل جزءًا من عملية معرفية أعمق.

المشاعر والجسد: الفلسفة الظاهراتية

في الفلسفة الحديثة، وخصوصًا في الفلسفة الظاهراتية، جرى التركيز على دور الجسد في تشكيل التجربة العاطفية. الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر في "الوجود والزمن" اعتبر أنّ المشاعر جزء من وجود الإنسان في العالم، فهي تكشف عن علاقتنا مع محيطنا وتوجّهنا نحو العالم. على سبيل المثال، عندما يشعر الإنسان بالخوف، لا تكون المشاعر مجرّد ردات فعل عقلية على حدث معين، بل هي تجسيد للوجود البشري في العالم.

عندما يشعر الإنسان بالخوف، لا تكون المشاعر مجرّد ردات فعل عقلية على حدث معين، بل هي تجسيد للوجود البشري في العالم

الفيلسوف الفرنسي موريس مرلوبونتي، من ناحية أخرى، كان مهتمًا بالعلاقة بين الجسد والعاطفة. في "المرآة الجسد"، أشار إلى أنّ مشاعرنا تتشكّل من خلال التفاعل الجسدي مع المحيط. وبذلك، يعتبر مرلوبونتي أنّ المشاعر ليست مجرّد تجارب داخلية بل تجسيدات لوجودنا في العالم. الجسد، إذًا، ليس مجرّد آلة ميكانيكية بل هو عنصر أساسي في تشكيل المشاعر.

المشاعر والوجود: الفلسفة الوجودية

الفلسفة الوجودية، وخصوصًا عند الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، تعكس فهمًا مختلفًا للمشاعر. في "الوجود والعدم"، يرى سارتر أنّ المشاعر ليست مجرّد ردات فعل أو حالة عاطفية عابرة، بل هي أفعال إرادية تُعبّر عن اختيار الإنسان لوجوده. بالنسبة لسارتر، العواطف جزء من الحرية الإنسانية، فكلّ شعور هو تعبير عن حالة معينة من الوجود.

الوجودية تطرح أنّ المشاعر لا تُعاش في فراغ، بل ترتبط بشكل أساسي بالحرية والاختيار. الإنسان، وفقًا لهذه الرؤية، هو الذي يخلق مشاعره من خلال تفاعله مع العالم، وأنّ كلّ شعورٍ هو فعل من أفعال الذاتية.

العواطف في الفلسفة الاجتماعية: تأثير السلطة والمجتمع

في الفلسفة الاجتماعية المعاصرة، تُعتبر المشاعر محورية لفهم العلاقات الاجتماعية والسياسية. الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو اهتم بكيفية تأثير القوى الاجتماعية على المشاعر، مشيرًا إلى أنّ السلطة ليست فقط قادرة على التأثير في سلوكنا ولكن أيضًا في عواطفنا. في هذا السياق، تتداخل المشاعر مع مفاهيم مثل السيطرة والحرية.

تُعتبر المشاعر محورية لفهم العلاقات الاجتماعية والسياسية

من ناحية أخرى، الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر ربطت المشاعر بالقضايا الاجتماعية مثل الهوية والجندر. ترى بتلر أنّ العواطف مثل الحبّ والكره تتشكّل في إطار اجتماعي معيّن، وتساهم في بناء الهُويّات الاجتماعية.

المشاعر والعقل: من البراغماتية إلى علم النفس المعرفي

في فلسفة البراغماتية، مثل الفيلسوف الأميركي ويليام جيمس، جرى النظر إلى المشاعر كجزء من عملية تكيّف الإنسان مع البيئة. جيمس وعالم النفس الدنماركي كارل لانغ اقترحا أنّ المشاعر ليست مجرّد استجابات ذهنية، بل هي نتيجة لتفاعلنا الجسدي مع العالم المحيط. بمعنى آخر، نحن نشعر بالحزن لأنّ أجسامنا تعبّر عن ذلك أولًا، قبل أن ندركه عقليًّا.

الفلسفة المعرفية المعاصرة أيضًا تؤكّد هذا التفاعل بين الجسد والعقل في تكوين المشاعر. المشاعر ليست مجرّد حالات عقلية، بل هي ردات فعل جسدية تتفاعل مع أفكارنا وذكرياتنا.

خاتمة: المشاعر كجزء من الوجود البشري

الفلسفة المعاصرة قدّمت رؤى متنوّعة للمشاعر بعيدًا عن التصوّرات التقليدية التي كانت تحصرها في ردات فعل عاطفية أو فيزيولوجية. مع الفلسفات الظاهراتية، والوجودية، والمعرفية، جرى التأكيد على أنّ المشاعر ليست مجرّد استجابات عابرة، بل هي عناصر حيوية تشكّل تجربتنا الإنسانية، سواء من خلال تأثيرها على معرفتنا بالعالم، أو من خلال تأثيرها على سلوكنا وقراراتنا. المشاعر، من هذا المنظور، ليست مفارقة للعقل، بل هي جزء لا يتجزأ من كلٍّ أكبر: وجودنا في العالم.

طرائف موسى
طرائف موسى
طالبة دراسات عليا في الجامعة اللبنانية بيروت/ العمادة، تخصّص فلسفة وتحضر الآن رسالة الماجستير مسار الإرشاد الفلسفي. عملت سابقا، كمعلمة في لجنة الإنقاذ الدولية وتعمل الآن عاملة توعية في لجنة الانقاذ الدولية.