المساعدات الخارجية.. تنمية أم هيمنة؟

05 فبراير 2025
+ الخط -

كتب فينس تشادويك على منصّة ديفكس المعنية بشؤون ومشاريع التنمية الدولية أنّه وفقًا للرئيس التنفيذي لشركة، دي تي جلوبال تورجي جيرلاش، فإنّ معظم الشركات المنافسة لدي تي جلوبال يقومون حرفيًّا بتسريح (80% إلى 85%) من موظفيهم، ويتوقّع أن يؤدي قرار ترامب بإيقاف المساعدات الخارجية إلى فقدان (2000 – 3000) متخصّص في التنمية لوظائفهم في منطقة واشنطن العاصمة وحدها خلال أسبوعين. وقد بدأت هذه العاصفة بوضع عشرات من كبار مسؤولي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قيد الإجازة الإدارية بعد التحقيقات في محاولات مزعومة للالتفاف على تعليق المساعدات، وقد شملت هذه المجموعة وفقًا لأسوشييتد برس مساعدين إداريين ومستشارين قانونيين مسؤولين عن تفسير الأمر التنفيذي وتطبيقه.

لقد عرفت تورجي قبل أكثر من عقد من الزمن عندما كان المدير التنفيذي للعمليات ونائب الرئيس في أيكوم، حيث عملت حينها مع أيكوم كنائب لمدير برنامج التنمية الإقتصادية والاجتماعية في العقبة، وبحكم المناصب التي تولاها تورجي على مدار العقود الثلاثة الماضية وشبكة علاقاته الممتدّة مع قيادات القطاع على مستوى العالم أظنّه من الشخصيات المطلعة على خفايا صناعة التنمية الدولية، وعليه لا يمكن الاستهانة بتقديراته. هذا الإرباك امتدّ عبر العالم وفق توقعات أخرى بخسارة (10,000) من متخصّصي التنمية حول العالم لوظائفهم.

كما أدى هذا التجميد للتمويل وما ترتّب عليه من تخفيضاتٍ كبيرة في القوى العاملة إلى انقطاعاتٍ تشغيليّةٍ خطيرة تهدّد حيوات الآلاف حول العالم وليس فقط سبل عيشهم. فوفقًا لصحيفة جارديان، تكافح العيادات في أوغندا للعثور على مصادر جديدة للأدوية الحيوية لفيروس نقص المناعة البشرية، ويخشى عمّال الإغاثة في بنغلاديش من انهيار البنية الأساسية لمخيمات اللاجئين، وقد تضطر وحدات الصحة المتنقلة إلى التوقّف عن علاج المدنيين بالقرب من خطّ المواجهة في أوكرانيا، وقس على ذلك آلاف التدخلات والأنشطة التي اضطربت أو توقفت حول العالم.

هذه العاصفة  أثارت زوبعة من الجدل العالمي حول دور هذه المساعدات وفعاليتها، بين من دافع عن المساعدات باعتبارها أداة إنقاذ للبشرية، ومن انتقدها باعتبارها أداة للهيمنة الجيوسياسية والاقتصادية، تاركين الحقيقة عالقة في منطقة رمادية يصعب الإمساك بها. والحق يقال سمعت خلال اليومين الماضيين من الخزعبلات في المجال ما لم أسمعه في عقد من الزمن، ولمحاولة فهم هذه الإشكالية وسط الزوبعة، لا بدّ من الغوص في طبيعة المساعدات الخارجية وأهدافها، وفكّ التشابك بين أبعادها الإنسانية والسياسية والاقتصادية، قبل القفز إلى الاستنتاجات والحلول.

فعالية المساعدات تعتمد بشكل كبير على كيفية إدارتها وتوجيهها

تُعدّ المساعدات الخارجية واحدة من أكثر الأدوات تعقيداً في السياسة الدولية. فهي ليست مجرّد تدفقات مالية أو عينية تُقدّم لدول تعاني أزمات اقتصادية أو إنسانية، بل هي أيضاً أداة جيوسياسية تُستخدم لتعزيز النفوذ الدولي، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنت الولايات المتحدة الأميركية سياسة المساعدات الخارجية بوصفها جزءاً من استراتيجيتها لتعزيز القوة الناعمة. فمن خلال هذه المساعدات، تسعى واشنطن إلى ترسيخ قيمها الثقافية والسياسية، وتعزيز علاقاتها مع الحلفاء، وبالتأكيد الضغط على الدول التي قد تفكّر في الخروج عن الخطّ السياسي الأميركي، مما جذّر هذه الأداة في كثير من الأنظمة حول العالم، جاعلًا القول بالانفكاك الفوري منها أسهل بكثير من التطبيق الفعلي.

ومع ذلك، فإنّ الحديث عن المساعدات الخارجية لا يمكن اختزاله في بعدها الجيوسياسي فقط. فمن الناحية الاقتصادية، ساهمت هذه المساعدات في إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية عبر مشروع مارشال، مما سمح بإنعاش الاقتصادات الأوروبية وفتح أسواق جديدة للصادرات الأميركية. وهنا، تظهر المساعدات أداةً للاستعمار الاقتصادي الناعم، حيث تُستخدم لربط الدول المتلقية بالاقتصاد العالمي، خصوصاً بالاقتصاد الأميركي، مما يعزّز التبعية الاقتصادية ويضمن استمرارية النفوذ الأميركي.

وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن إنكار أن للمساعدات الخارجية جوانب إيجابية، خاصة عندما تُوجّه نحو دعم القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية وتعزيز سيادة القانون. ففي العديد من الحالات، ساهمت هذه المساعدات في إنقاذ أرواح ملايين الأشخاص، ودعم المجتمعات الفقيرة، وتمكينها من مواجهة الأزمات الإنسانية. ومع ذلك، فإنّ فعالية هذه المساعدات تعتمد بشكل كبير على كيفية إدارتها وتوجيهها. فعندما تُستخدم المساعدات أداةً لفرض نماذج ثقافية أو سياسية مستوردة لا تتوافق مع السياقات المحلية، فإنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية، بل قد تُفاقم الأزمات بدلاً من حلها.

تظهر المساعدات أداةً للاستعمار الاقتصادي الناعم، حيث تُستخدم لربط الدول المتلقية بالاقتصاد العالمي، خصوصاً بالاقتصاد الأميركي

من جهةٍ أخرى، لا تتوقف التساؤلات حول نيّات الدول المانحة، خصوصاً الولايات المتحدة، التي يعتبرها الكثيرون أكبر دولة مُشعلة للحروب ومنتهكة لحقوق الإنسان في العقود الأخيرة. فكيف يمكن لدولة تُدير حروباً في عدّة مناطق حول العالم أن تقدّم نفسها منقذاً إنسانياً؟ هذا التناقض يضعف مصداقية المساعدات الخارجية ويُظهرها أداةً لتحقيق أهداف استعمارية أكثر منها إنسانية.

ولو افترضنا أننا في عالم مثالي، فإنه يمكننا النظر إلى المساعدات الخارجية بوصفها أداة تطوير مؤقتة، شرط أن يتم التعامل معها بحذر من قبل الدول المتلقية. فبدلاً من أن تصبح هذه المساعدات وسيلة لترسيخ التبعية، يجب أن تُستخدم جسراً لبناء نماذج تنموية محلية مستدامة. وهذا يتطلّب من الدول المتلقية أن تعمل على تعزيز قدراتها الذاتية، وتقليل اعتمادها على المساعدات الخارجية بشكل تدريجي مخطّط له ومدروس، وتوجيهها نحو مشاريع تنموية حقيقية تُسهم في تحسين حياة المواطنين من دون التضحية بالسيادة الوطنية.

في ظلّ الجدل الدائر، يبقى من الضروري في هذه الأوقات الحرجة تبني فهم أكثر توازناً لدور المساعدات وأهدافها. فالمساعدات ليست شرّاً مطلقاً ولا خيراً مطلقاً، بل هي أداة معقدة تحمل في طياتها إمكانيات كبيرة للتنمية والإغاثة، ولكنها أيضاً تحمل مخاطر الهيمنة والتبعية. ولتحقيق الاستفادة القصوى من هذه المساعدات، يجب أن تعمل الدول المتلقية على تعزيز شفافيتها، وضمان توجيهها نحو الأولويات الوطنية، وبناء شراكات متوازنة مع الدول المانحة. فقط عندها يمكن تحويل المساعدات من أداة للهيمنة إلى أداة حقيقية للتنمية المستدامة.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.