المحكمة الجنائية الدولية: عدالة دولية أم انتقائية؟
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والمجتمع الدولي يكافح من أجل إرساء منظومة قانونية دولية تعمل على ترسيخ العدالة ومنع حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان في مختلف دول العالم، غير أنّ هذا الهدف يواجه العديد من الضغوط والعقبات المتمثّلة في ازدواجية المعايير والانتقائية المُمارسة من قبل الدول الغربية، حتى إن البعض أصبح يرى أنّ المنظومة الدولية كلّها ما هي إلا وسيلة إمبريالية تمارس من خلالها دول الغرب هيمنتها على دول العالم الثالث تحت ذريعة حقوق الإنسان والعدالة. ويُعدّ مثال المحكمة الجنائية الدولية مثالًا حيًّا على ذلك، إذ تمّ تأسيسها بهدف منع الإفلات من العقاب وتأكيد أنّ قراراتها ملزمة وغير قابلة للطعن، إذ من اختصاصها النظر في جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية التي يرتكبها القادة والمسؤولون في الدول وغيرهم، لكن لا تملك المحكمة سلطة تنفيذية ولا شرطة لإلقاء القبض على من تَصدر مذكرات اعتقال بحقهم.
ومنذ أن بدأت المحكمة تمارس عملها وأصبحت ولايتها نافذة في سنة 2002، طرحت في جدول أعمالها نحو 42 قضية جلّها من القارة الأفريقية، وكذلك معظم مذكرات الاعتقال التي أصدرتها كانت ضدّ قادة دول أفريقية، من بينهم عمر البشير وكذلك رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلر ورئيس دولة ساحل العاج. وكانت أوّل قضية تناولتها المحكمة من خارج القارة هي أوكرانيا، وبسرعة أصدرت مذكرة اعتقال للرئيس الروسي بوتين، في سنة 2023، وهي أسرع مذكرة اعتقال صدرت عنها. والتهمة كانت نقل نحو 300 طفل من أوكرانيا إلى داخل روسيا، ليبدو هذا القرار مسيّسًا بامتياز وخادمًا للمصالح الغربية ضدّ روسيا. بينما، وفي الضفة الأخرى، تُرتكب عشرات المجازر كلّ يوم في غزّة التي ترتقي إلى مصافي جرائم حرب، وعلى مرأى من المجتمع الدولي، من دون اتخاذ أيّ إجراءات ضدّ الاحتلال الاسرائيلي. غير أنه بتاريخ 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان مذكرتي اعتقال بحقِّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت في سابقة من نوعها تصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية، ما أثار غضب الولايات المتحدة وإسرائيل.
ورغم أنّ المحكمة تؤكّد التزامها بمعايير العدالة، سرعان ما أقرّ مجلس النواب الأميركي قانونًا بعنوان "مكافحة المحكمة غير الشرعية" في الأيّام القليلة الماضية، يفرض عقوبات على المحكمة ومنع تمويلها، بل يعاقب أيّ فرد يسعى للتحقيق مع مواطنين أميركيين أو قادة من الدول الحليفة، بما في ذلك إسرائيل. وجاء هذا القانون ليجدّد الانتقادات بشأن ازدواجية المعايير التي تتبعها الدول الكبرى في تعاملها مع المحكمة. فعلى الرغم من أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن دعم في وقت سابق مذكرات الاعتقال الصادرة بحقِّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب الحرب في أوكرانيا، لكن موقفه تجاه المحكمة تغيّر تمامًا عندما طالبت بمساءلة إسرائيل عن جرائمها في فلسطين.
تحصين الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل ضدّ أي مساءلة قانونية يجعل من محكمة الجنايات أداة تُستخدم لإضعاف دول الجنوب وإبقائها تحت السيطرة
وتجدر الإشارة إلى أنّ موقف الولايات المتحدة الرافض لسلطة المحكمة يعود إلى إدارة ترامب، التي فرضت عقوبات على قضاة ومدعين عامين عند فتح تحقيقات بشأن جرائم حرب محتملة ارتكبها الجيش الأميركي في أفغانستان. هذا السلوك يعزّز ثقافة الإفلات من العقاب، خاصة أنّ المحكمة تواجه تحديات مستمرة في تنفيذ قراراتها، مع غياب سلطة تنفيذية تابعة لها، وتعرّضها لضغوط سياسية كبيرة من الدول غير الموقعة على نظام روما الأساسي، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا والصين، التي لا تعترف بسلطة المحكمة خوفًا من محاسبة قادتها.
إنّ النظر إلى المحكمة الجنائية الدولية لا يكتمل من دون الإشارة إلى تسييس العدالة الدولية، حيث تبدو المحكمة وكأنها تعمل في إطار يخدم القوى الغربية فقط. فتحصين الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، ضدّ أي مساءلة قانونية، يجعل من المحكمة أداةً تُستخدم لإضعاف دول الجنوب وإبقائها تحت السيطرة. هذا التحصين يظهر جليًّا في ازدواجية المعايير، إذ يتم تجاهل الانتهاكات الكبرى التي ارتكبتها هذه القوى وحلفاؤها، بينما يتم تسليط الضوء على قضايا من دول أقل نفوذًا. ومن خلال هذا السلوك، يمكن القول إنّ المحكمة لا تمثل نظامًا عالميًّا للعدالة بقدر ما تعزّز ديناميكيات الهيمنة الغربية تحت ستار القانون الدولي. ومع أن هدف المحكمة المعلن هو محاربة الإفلات من العقاب، لكن ممارساتها تكشف عن إفلات الدول الأقوى من المساءلة، مما يعزّز التفاوت والظلم في النظام العالمي، والأهم من ذلك خضوعها لتلك الضغوط السياسية.