المجتمع العربي والحركات التجديدية

المجتمع العربي والحركات التجديدية

01 مارس 2022
+ الخط -

لو طُرح عليك سؤال طارئ عن سبب عدم نجاح الثورات في المجتمع العربي بسهولة، فما أكثر الأسباب إقناعاً؟

ببساطة، إن المجتمعات العربية يصعب فيها عملية التغيير، أي يصعب فيها ولادة فكرة أو حركة أو توجه مغاير للفكرة الحالية المعيشة في أي فترة من الفترات، لأن المجتمع وصل إلى مرحلة من العجز والخمول الاجتماعي ما لم تصل إليه أمة سابقة، لا الأميركيتان، ولا المجتمع الإنكليزي في زمانه المظلم، ولا حتى المجتمع الأندلسي بعد سقوط الخلافة الإسلامية. إنهم توارثوا مبدأ (وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) لذلك يعزون الأمر ويرمون العذر على الأسلاف دون دراسة وبحث.

ولا يكلف نفسه بالسؤال: هل المنهجية المعيشة صالحة أم طالحة؟ هل هي حق أم باطل؟ هل هي حلال علينا أم حرام؟ كل ذلك لا يهمّ، بل الأهم من هذا كله أنّ السابقين منا لم يعترضوا، إذاً نحن لا يمكن أن نعترض ونقتل مسيرة السابقين من حيث الطاعة والخضوع، لذلك تجد هذه المجتمعات تدور في مكانها كأنها في دائرة مفرغة، والحال لا يتغير منه شيء أبداً بسبب هذه الأفكار والتقاليد.

لهذا السبب لا يمكن أن تنجح أي ثورة لدينا بتلك السهولة التي يتخيلها الثائر، فقد ذكر المرحوم الدكتور علي الوردي في الجزء الخامس من كتابه "وعاظ السلاطين": "إن كل حركة اجتماعية جديدة تُتهم أول الأمر بأنها من صنع الأجانب والزنادقة، فإذا نجحت واستولت على الحكم صارت من صلب الدين ودخلت في سجل المقدسات الموروثة".

لهذا السبب نجد أن سلسلة من الثورات التي حدثت في المجتمع العربي لا يؤمن بها المجتمع نفسه، في الوقت الذي يجب أن يكون هو الداعم الرئيس لمثل هذه الحركات، لأنه اعتاد السير على طريقة الأقدمين من أسلافه، أي على مبدأ الطاعة وتحريم التغيير، حتى وإن كان مظلوماً مسحوقاً، فهو راضٍ بالحال، لأن أباه وجدّه كانا راضيين بذلك، فهو لا يمكنه الخروج عن طوع أبيه وجده، وأبوه وجده كانا يسيران طوع مَن كان أقدم منهما من الأجداد، وأي مجدد يظهر في أي حقبة، يتبرأ منه المجتمع، لأنه عميل ولديه علاقات خارجية ومآرب عافانا الله منها.

بتنا اليوم مجتمعًا استهلاكيًا لا منتجًا، نخاف من أي حركة تريد التغيير لكي لا تزعج خمولنا وتقتل ما نقله إلينا الأجداد من أفكار ومعتقدات!

إن أي حركة تجديدية في بدايتها تُلعن ويحاول المجتمع دفنها في مهدها وقتلها بأي طريقة من الطرق، وذلك لإبقاء الحال على وضعه الطبيعي دون إثارة أي مشاكل، فالتغيير لا يمكن أن نحزره، ومن الجائز جداً أن يكون هذا التغيير أسوأ من الحال المعيش!

هذه هي الأفكار التي زرعها الأجداد في عقول الأولاد، ليكبر الأولاد ويكونوا أجداداً، ويعلموا الأجيال التي تليهم بما تعلموه، لذلك تجد شيخ العشيرة يبقى شخصاً مهيباً ومُقدَّراً وذا منزلة مرموقة بين مجتمعه، حتى وإن كان خسيساً فاسداً، حيث لا يمكن تغييره بشخص آخر صالح خلوق، والسبب أنّ أيّ شخص سيثير هذه الفكرة على الشيخ سيتهم بعمالته لعشيرة أخرى، ويتبرأ منه أفراد عشيرته، ويُنفى ويكيدون له، بالرغم من معرفتهم جميعاً بفساد كبيرهم وانحطاطه، وأن أخلاق الشخص المنفي حميدة، كل ذلك يعود إلى أن هذا الشخص صاحب الأخلاق الحميدة لم ينجح بثورته على شيخ عشيرته، وأفراد العشيرة ينتظرونه ليثور وحده، وينجح وحده، ومن بعد ذلك تقع عليهم مهمة الاختيار بين القديم الفاسد والجديد المؤدب، وبجميع الأحوال سيختارون الجديد لأنهم يسيرون على مبدأ أسلافهم في وضع كفهم على الكفة الأقوى.

هذا مثال بسيط على مستوى عشيرة في قرية بسيطة، ومن هذا المنطلق تتسع الدائرة إلى أصعدة أوسع وأكبر.

إن أي ثورة تحدث في المجتمع العربي تحتاج إلى أكثر من تبرير وأكثر من دليل، وأيضاً تحتاج إلى وقت طويل جداً لكي تحصل على مكان في سطور ذلك المجتمع لصعوبته في تقبّل هذه الفكرة، فالمجتمع العربي لا يؤمن بمبدأ التغيير والتجديد، لأنه يؤمن بالقائد الأوحد مهما كانت قساوته وظلمه، وإن أي ثورة أو حركة تجديدية تحتاج إلى رحلة طويلة لإثبات وجودها وإقناع المجتمع بها، ولأنها ستتهم بشتى أنواع التهم، يجب أن تبقى على تماس وتواصل مستمر مع المجتمع لتبرير موقفها الحقيقي لأبناء المجتمع، لأنها ببساطة كبيرة سيتخلون عنها بحجة بسيطة أو إشاعة ساذجة.

من الطبيعي جداً أن تُلعن أي ثورة أو أي حركة تجديد لأي مبدأ وأن تتهم بالكذب والعمالة لإبعاد خطر التغيير عن المجتمع، لأن هذا المجتمع لا يمكنه تحمّل فكرة أنه حصل على انشغال جديد في حياته وأفكار ومبادئ جديدة وحركات مغايرة لما عاشه سابقاً، فالوضع الجديد سيطلب منه التحرك من مكانه ومغادرة خموله والتوجه إلى العمل، ليكون شخصاً منتجاً بدلاً من كونه مستهلكاً، وهذا بحد ذاته سيعتبر تهديداً لسكونه وركوده، فهو يريد الحال يسير كما هو عليه إلى مماته، وإنّ العمر لحظة بالنسبة إليه يريد أن يقضيه بطريقة المستهلك لا بطريقة المنتج، وهذا خير له من المشقة، ولا يدري أن هذه المشقة التي تحوّله من منتج إلى مستهلك ستؤمن لأولاده وأحفاده حياة، وبهذا سيكون تجاوبه مع الحركات التجديدية والثورات أكثر مقبولية، لأنه سيحسب الأمر عقلياً ووطنياً واقتصادياً، لا بفكرة الأجداد الموروثة.

لذلك، بتنا اليوم مجتمعاً استهلاكياً، لا منتجاً، نخاف من أي حركة تريد التغيير لكي لا تزعج خمولنا وتقتل ما نقله إلينا الأجداد من أفكار ومعتقدات!

الخمول المعتاد الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الفرد العربي، وما كان آباؤنا وأجدادنا عليه سائرين من طاعة وقبول بالحال المعيش. وبهذه الطريقة سندخل إلى مفترق طرق يقلب على الثائر كل طبائع المجتمع الخاطئة، وبهذا يصبح أكثر من عميل وخائن، بل يصبح ابن سبأ زمانه.

6B6106B4-5BBF-4532-A9FD-232C712B2960
يوسف علي يوسف

كاتب نصوص ومقالات من العراق