المجازفة غير الانتحار

31 مايو 2025   |  آخر تحديث: 11:48 (توقيت القدس)
+ الخط -

المجازفة غير الانتحار، الأولى كسرٌ للدائرة حين تستحكم، والثانية اختناقٌ بها وفيها، والحكم على الأفعال من نتائجها لا من بنيتها الأولى يوقعنا في خطأ التأويل، فيصوّر المجازفةَ انتحارًا بناءً على فداحة النتائج التي خالفت مراد الفاعلين وحسابهم، لا يعني بالضرورةِ أنّه واقع الأمر، تماماً كما أنّ تحقّق النجاح لا يحوّل التهوّر إلى حكمة.

فلو سارت الأمور على غير ما سارت إليه لما ذهب الظنُّ إلى هذا التصوّر، ولو انتهى الأمر إلى غير ما انتهى إليه (حتى الآن) لرآه الناسُ بطولةً وشجاعة نادرتين وعدّوه اختراقًا تاريخيًّا وحمكةً استراتيجيّة، لهذا فمعيار الحكم لا يجوز أن يتأسّس على النتيجة فحسب، بل على بنية الفعل؛ الدوافع، الحسابات، التصوّرات، وحدود الوعي بالمآلات المحتملة والاستعداد لسيناريواتها.

صحيح أنّ للحركاتِ ما ليس للدول، كما ذكر الأستاذ أحمد عبد الحليم في مقاله "عن الانتحار والسياسة بين الحركات والدول: حماس، حزب الله، وإيران/ موقع مواطن"، الذي أحاول النظر إلى ما جاء فيه هنا، وأتّفقُ مع أحمد في كثيرٍ مما أوردَ، لكنّي أخالفه الرأي في بعض المواضع، وقد مال لتأويل السابع من أكتوبرتضحيةً بغير حساب (انتحارا) وصوّره فعلاً سجنيّاً هروبًا من قساوة الواقع وفقد الأمل. ولأني وأحمد شركاء في عمادينِ أقامَ عليهما مقاله (الثورة، والسجن)، خاصّةً وقد أطّرتا قراءته للسابع من أكتوبر وما تلاها، يحقّ لي كما أظنّ الاختلاف معه، تمحورًا حول الفارق الدقيق بين التخلّص من القيد، وبين التخلّص من الذات تجنّبًا لوطأته.

وقد سبقَ وتناولتُ مسألة الانتحار (الفردي والجيلي) في نصوص متفرّقة، لانشغالي به وبغيره من أعراض الهزيمة وآثارها، وهو ما أعادني لمقارنةٍ عقدتها في أحدها، وضعتُ فيه طوفان الأقصى في الخانة المقابلة للأفعال الانتحاريّة وإن التبس حالها لشديد جرأتها ومباغتتها وشبه استحالة مرادها، هذه المفارقة، في النظر لذات الحدث الذي يعايشه كلانا من زاويتين متقابلتين جديرٌ بالعودة إليه.

معيار الحكم لا يجوز أن يتأسّس على النتيجة فحسب، بل على بنية الفعل؛ الدوافع، الحسابات، التصوّرات، وحدود الوعي بالمآلات المحتملة والاستعداد لسيناريواتها

فما جرى في السابع من أكتوبر، في حدود ما نعرفُ، كان تصوّرًا تفصيليًّا لمشروع راسخ، حوصر حتى الركود، وكاد يذبل بهدوء في نظر أصحابه، فاحتاج طفرةً تُنقذه وتعيد الحياة إليه، قفزةً للأمام قبل أن يختنق ويموت في مكانه، لكنّها لم تكن قفزة إلى قعر العدم، دون تدبّرٍ أو تخطيطٍ أو نقاشٍ وتشاور واستعدادٍ سياسيّ وإعلامي وعسكريّ، وتدريبات تحاكي الخطّة قبل تنفيذها، ملكَ أًصحابه تصوّرًا عن زمن المعركة، وحدود أثرها، وغاية ما يمكن انتزاعه منها، وهو ما بدا (حتى اللحظة) لمثلي شديد الواقعيّة وإن تمسّك بالمستحيلات لتحقيقه.

وإذا كان الفارقُ بين القرارات الانتحاريّة والمخاطرة الواعية يمكن قياسه عبر مجموعة من العوامل، كطبيعة الدوافع وحساب العواقب واحتمالات النجاح والاستعداد للفشل، ثمّ ذاتيًّا، وهي عوامل ملتبسة غالبًا: البعد الرمزي وقدر الوعي اللحظي ودوارن الفعل حول الفاعل والنظرة إلى المستقبل؛ فيمكن النظر إلى السابع من أكتوبر أو قياسها على هذا القياس لنرى حقيقة تصنيفها، إن كان هذا له معنى الآن، فيه من الشجاعة والبطولة والمجازفة الكثير، لكنّه لا يسقط في فخّ الانتحار إلا عندما نخلط بين الجرأة والعدم، في تعريفنا لهما، لا في قراءتنا لآثارهما عند اختبارٍ بعينه.

أمّا حسابُ العواقب، فلم تغفل المقاومة عن ضخامة الردّ المتوقّع، بل عدّت حسابها على ضرباتٍ قاسية تطاول المدنيين بالأساس، والبنى التحتيّة عسكريًّا ومدنيًّا، واغتيالات بالصفوف الأولى والقيادات الميدانيّة، وقد أعدّت لذلك عبر سنين طوال التحصينات والخطط والتدريبات، وخطط الامتصاص والتخفّي ولا مركزيّة الحركة، في سياق الخطة العامة، ما أدهش الكلّ، بمن فيهم العدوّ في غالب عمر المعركة، لولا اختراقات أصابتها نتيجة امتدادٍ لم يعد يقبله حتى شركاء العدوّ للمعركة، و شراكة دوليّة وحصار إقليمي، فيه تواطؤ إن لم تكن شراكة، إضافة لضغوط الوسطاء، وربّما ميلٌ للبعض عند تبدّل المآلات عن مراداتها الأولى للرمزيّة.

لم تغفل المقاومة عن ضخامة الردّ المتوقّع، بل عدّت حسابها على ضرباتٍ قاسية تطال المدنيين بالأساس

وفي إمكانات النجاح، لم يكن النصر التقليديّ هدفًا للمقاومةِ أصلاً، وإن كان غايتها الكبرى، بل أرادت ضرب المعادلة السياسيّة والأمنيّة والدوليّة، وقلب الطاولة عبر تنشيط تناقضات العدوّ الداخليّة والخارجيّة، وكسر هيبته وتبديل سرديّته الزائفة، وفرض القضيّة قبل تصفيتها القريبة تطبيعًا وإعادة احتلال وتهجير أُعدّ لهم قبل الطوفان بوقتٍ غير قليل، وهي الأغراض التي تحقّق غالبها في شطرٍ معتبرٍ من الحرب، بما فاق تصوّر المقاومة، التي فاجأها ما كان من خارجها كما فاجأ العالم كلّه.

وأخيرًا عن الاستعداد للفشل، فقد بدا أنّ المقاومة امتلكت تصوّرات عن أسوأ السيناريوات (ربّما ما قبل الإبادة، وقد صرّح بعض قياداتها علنًا بأنّهم يعوّلون على تحريك الحالة لا نجاح العمليّة المطلق، إضافة لإعادة التموضع، القضيّة والمقاومة) بما يليقُ ويحققُ مراداتهم في ما هو أبعد.

وهذه كلّها وغيرها، ليست مواضع التباسٍ في ما أظنّ، وإن كانت قسوتها لا توصف، نظرًا لرعب الثمن الإنساني المدفوع حتى الآن، لكنّي أُصرُّ على أنّه بجلاله وأهميّته ليس معيارًا (وحيدًا على الأقل) للقياس، وفي كلّ فقرةٍ من سابق ما كتبتُ، يستعيدُ ذهني ثورتنا المجيدة (25 يناير2011) بنيتها ومآلاتها، على الفارق الضخم بينها وبين السابع من أكتوبر، في طبيعة الصراع وأطرافه وخسائره، لكنّها لو عند تقليل الحدّة سنجدُ شيئًا مشابهًا، ما زالت بعضُ أصواتٍ تتهمنا حتى اللحظة بالانتحار وتخريب البلد والإجهاز على فرص الإصلاح الواقعي قبل الردّة العسكريّة التي جرت والتسبّب في مقتل عشرات الآلاف واعتقالهم ونفيهم.

طوفان الأقصى... قرارٍ وتحرّكٍ يأخذا المخاطرة الواعيةَ لآخرها، من دون انتحار

وبهذا فنحن (في السابع من أكتوبر) أمام قرارٍ وتحرّكٍ يأخذا المخاطرة الواعيةَ لآخرها، من دون انتحار، لما بدا من استعداد وحسابٍ وجهوزيّة، وإن خالف الواقع التوقّعات، فهو خطأُ حسابٍ أو فشل تنفيذٍ لا انتحار، ولعلّ موطن انتحاريّته الوحيد الذي لا يمكن إنكاره، هو تضمّنه لجوهر التضحية الرمزيّة التي قد تقبل أي خسارة لحظيّة لتحرّك وضعًا جامدًا، ينقل الحال لمستقبل مغاير. 

أمّا إثارة المسألة الأخلاقيّة حول مشروعيّة اتخاذ قرارٍ يُقحم المجتمع في معركةٍ لم يخترها ولم يستعدّ لها (ربّما) والجدل حول الحقّ في تقرير مصير المجموع واصطدامه بالحقّ في التحرّك بحسب القناعات المستعدّ لتحمّل تبعاتها، على ما فيها من التباسٍ يكاد لا يقبل الحلّ، فربّما يكون موضوع المقال القادم، إن بقيَ في العمر قادم.