المتكأ اللفظي

المتكأ اللفظي

19 ديسمبر 2020
+ الخط -

يسعى المرء إلى اكتساب معارف جديدة، ينوّع اهتماماته وقراءاته ومصادر دخله ما أسعفته الظروف وأوسعته الحيل، لكن شيئًا يغيب عنه قد يعيقه كثيرًا؛ لغة التواصل مع الآخرين. اللغة عملة رائجة، ويحدث أن تُصدر الدول عملات جديدة بين الحين والحين، إذ اهترأت القديمة وفقدت بريقها. ربما يحيل ذلك إلى المقارنة بين اللغات/ العملات، قديمها وجديدها، ويشير ولو من طرفٍ خفي إلى أهمية استعمال الألفاظ الرشيقة المناسبة لعصرنا السريع، لكنها في الوقت نفسه تشي بحتمية زيادة الرصيد اللغوي، وتؤكد أهميته في التواصل والإقناع وتسويق الذات.

ويبدو لك جليًّا الملل من حديث -مكتوب أو مسموع أو مرئي- تتكرر فيه كلمات بعينها، ما لم تكن مكررة لهدفٍ مقصود، إذ يُشعرك ذلك بالنفور والاختناق واتهام المتحدث/ الكاتب بمحدودية المادة الخام للكتابة أو الحديث. نتفق هنا ولو ضمنيًّا أن الكلمة وحدة بناء الحديث، كما أن المشهد وحدة بناء السيناريو، والخلية وحدة بناء الكائن الحي، وتأسيسًا على ذلك فالتعويل على الكلمة يؤثر في سياقات التعامل.

الكلمة مطيّة الفكرة، ونجائب المطايا أضمن لبلوغ المرام، ويحدث أن يُكرّر كثيرون كلمة بشكل نمطي، تجري على ألسنتهم مجرى اللعاب في الفم، قد لا ينتبهون لها، ربّما يستعملونها في غير موضعها. خذ مثلًا حوارًا قصيرًا بين مقدّم برامج وضيفه: يعقّب الضيف على حادث تصادم قطارين "إنه لأمر مؤسف، كان يومًا تعيسًا"؛ ليرد المذيع "جميل! ولكن اسمح لي أن". لنا أن نسأل: ما الجميل في الأمر المؤسف واليوم التعيس؟!

لم يقلها عن قصد، إنما خرجت منه مخرج الغالب، وهذه الكلمة وأمثالها تدخل في باب الردود غير المحسوبة، يُطلق عليها "اللازمة اللفظية"، ويصفها آخرون بـ"التلكؤ اللفظي"، أو "المطبات اللفظية"، ويمكنك تسميتها "المسمار اللفظي" قياسًا على مسمار جحا، أو "المتكأ اللفظي" على طريقة ممدوح عدوان.

يبدو المتكأ اللفظي واضحًا وبصورة فجة أحيانًا عند الارتجال؛ فلا يجد الشخص ما يقوله ولملء فراغ حديثه يهرع إلى المتكأ اللفظي، يتوسل به لتمرير بعض الثواني ليُمسك بتلابيب كلمتين أو ثلاث كلمات، ويعود إلى المتكأ إياه!

لعلك تُنكر إدمانك لفظة أو تركيبًا لغويًّا يأسرك، ثم تدور في فلكه إلى أن يكون متكأ لفظيًا، وعلى صعيد تجربتي الشخصية قابلت كثيرين لم ينتبهوا لتكرار ألفاظ بعينها، لم أندهش عندما فغروا أفواههم وحلفوا أيمانًا مغلّظة أنهم لم يلاحظوا ذلك مطلقًا. هم صادقون وإن لم يقسموا، إذ يحتاج الواحد إلى مراقب يتابع تدفق حديثه، أو يهتدي لذلك بمفرده عبر تسجيل كلامه وسماعه بعين فاحصة وأذن ناقدة.

صُدم حين انتبه لتكراره كلمة (مثل) مراتٍ عدة أفسدت رونق المقابلة. صمّم على التخلص من (مثل وأخواتها)، وبعد سنوات قلائل أصبح أصغر بطل للتحدث أمام الجمهور في العالم، حقق هذا الإنجاز وهو ابن 25 ربيعًا؛ إنه ريان أفيري

من أبرز الأمثلة على المتكأ اللفظي، شاب ظهر على شاشة صغيرة، أجريت معه مقابلة لدقيقتين، وكان مسرورًا بظهوره على الشاشة، لكنه صُدم حين انتبه لتكراره كلمة (مثل) مراتٍ عدة أفسدت رونق المقابلة. صمّم على التخلص من (مثل وأخواتها)، وبعد سنوات قلائل أصبح أصغر بطل للتحدث أمام الجمهور في العالم، حقق هذا الإنجاز وهو ابن 25 ربيعًا؛ إنه ريان أفيري. مثّل فوزه بهذه البطولة العالمية (نسخة 2012) فاتحًا لشهيته في الوقوف أمام الجماهير، ليس من باب التأثير والإقناع وحسب، وإنما لتدشين عمل خاص يرتبط بالتواصل والقيادة، ويملك اليوم شركة خاصة للأحاديث التحفيزية والتدريب على الخطابة والتواصل.  

يشعر الإنسان في دواخله بقدرات فائقة، تنقشع غيومها تحت شمس التجربة، تصعقه صدمة التباين الشاسع بين ما اعتقده/ توهمه وبين الواقع، ويفكر في تفادي تكرار المشكلة، ويعالج الخلل ويؤدي بطريقة احترافية. وقع ذلك لريان أفيري، فضلًا عن أغلب المهتمين بتحسين قدراتهم التواصلية والقيادية.

في الوقت ذاته، قد يكون الإكثار من المتكأ اللفظي متعمّدًا، تجد ذلك في الإعلانات والمواد الدعائية، وفي الروايات والمسلسلات والأفلام، ليس المقصود في هذه الحالة تنفير القارئ أو المستمع والمشاهد من المادة المعروضة، بل يُراد الترويج لها بقوة "الإفيهات" الرائجة، ومعايشة الشخصية الورقية/ الفلمية صاحبة هذا المتكأ، إما للتعاطف مع البطل والاقتداء به، وإما لتعزيز موقف أو للتحذير من آخر؛ فتجري هذه المتّكآت مجرى التوقيعات في رسائل الكتّاب العباسيين وبُلغاء المغردين -اليوم- على تويتر.

من منا لا يذكر افتتاحيات القصص القديمة "كان يا ما كان، في سالف العصر والأوان"، وجملها الختامية الشهيرة، واللازمة التعبيرية للفنان عبد المنعم مدبولي "شيلوا الميتين اللي تحت" في مسرحية (ريا وسكينة)، أو لمحمد نجم "شفيق يا راجل" من مسرحية (عش المجانين)، أو "صبّح صبّح يا عم الحاج" لمحمد سعد، والقائمة طويلة.

يرسّخ المتكأ اللفظي لرواج مادة أو شخصية، لكن يظل ذلك في إطار من الكوميديا أو الدراما، لن يسعفك -على أرض الواقع- في تأسيس قاعدة تفاهم مع الآخرين، خصوصًا في المجالات التي تتطلب إقناعًا. ينفي الفقر اللغوي أي إشارة على تجدد المعارف وتوسيع المدارك، إذ إن سعة الأفكار تستلزم ثروة لفظية وتعبيرية تدلّل عليها وتشير إليها، وليس بمقدور الناس الإطلاع على ما يجول في صدرك إلا من خلال المنتج اللفظي والتعبيري، ومن ثم فالاهتمام بالمسألة حيوي مصيري.

بعد الاهتداء للمتكأ اللفظي، قد تقرر الاستعانة به لخلق جو من التناغم، لكن ذلك له حد لا يتخطاه، وقد ترى أن التحكم فيه أدعى. ساعتها، أنت مطالب بامتلاك فئات متنوعة من العملات، تستعمل بعضها للتعامل البسيط، وآخر للتعامل الكبير، تمامًا كالأسلحة منها الخفيف والثقيل، ولكل منها استعمال لا ينافسه غيره فيه. لن نحيلك إلى قائمة من المراجع وأمَّات الكتب والقواميس والمعجمات، بسهولة لا تُضاهى أخرج هاتفك النقّال (الجوال/المحمول/الموبايل)، وتوسل بقاموس إلكتروني، وليكن قاموس المعاني، وفي باب "مرادفات وأضداد" اكتب المتكأ اللفظي الذي يؤرقك، اجمع بعض مرادفاته ونوّع متكآتك اللفظية؛ لتملك مساحة أكبر في التواصل والتأثير، واعلم يقينًا أنك لن تشتري أشياء عظيمة بملاليم الكلمات.