الكتابة في زمن خوارزميات القطط والمؤثرين

08 مارس 2025
+ الخط -

بينما كنت أحاول كتابة هذه السطور، توقفت لأتحقّق من إشعاراتي على مواقع التواصل الاجتماعي، لأكتشف أنّ الخوارزميات قد قرّرت أن تدفن منشوري الأخير بين صور القطط ووصفات الكعك وخزعبلات خبراء التنمية البشرية. لكنني تابعت الكتابة رغم ذلك، لأنني أؤمن بأنّ الكلمات قد تكون خلاصي الوحيد في هذا الفضاء الرقمي المليء بالضوضاء.. أو على الأقل، محاولة لطيفة للهروب منه!

أكتب لأنّ الكلمات هي المداد الذي أخطّ به ما خزّنته ذاكرتي، فأحفظ ما قد يضيع في زحمة الحياة ونسيانها. أكتب لأعطي أفكاري شكلاً وهيكلاً، فأحوّل فوضى الخواطر اليومية إلى نظام، وغموض التفاصيل المُجزّأة إلى وضوح، وأحيانًا بعض الأحلام إلى خطط. أكتب لأنني أؤمن بأنّ المعرفة لا تكتمل إلا عندما تُشارك، فأجد في مشاركة تجاربي وأفكاري مع الآخرين مهما قلّ عددهم إثراءً متبادلاً يفتح آفاقًا جديدة. أكتب لأنني أريد أن أترك أثرًا، ولو كان بسيطًا، في قلوب وعقول من يقرأوني، فألهمهم أو أغيّر منظورهم نحو الأفضل، أو لعلّي أناقض أفكار أحدهم فأحفّزه على إثبات أنني مخطئ بالعقل والمنطق.

أكتب أيضًا لأنني أرى في الكتابة حافزًا لا ينضب للتعلّم، فكلّ كلمة أخطها تدفعني إلى البحث والقراءة والتأمّل. وأخيرًا، أكتب لأنني أجد في الكتابة مرآة تعكس هُويتي ولربما تُساهم في نحتها مع مرور الأيّام، فكل فكرة أنشرها، وكلّ تجربة أسجّلها، تشكّل لبنة في بناء شخصيتي الفكرية والوجدانية. الكتابة، بالنسبة لي، ليست مجرّد فعل، بل هي رحلة يومية نحو فهم الذات وتطويرها، ومحاولات متواضعة للإسهام، ولو على المستوى دون الذري في رحلة الإنسانية الطويلة نحو المعرفة والحكمة.

أكتب أيضًا لأنني أرى في الكتابة حافزًا لا ينضب للتعلّم، فكل كلمة أخطها تدفعني إلى البحث والقراءة والتأمل

صحيح، قد لا تستقطب كتاباتي الكثير من إشارات الإعجاب على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن لم يكن الهدف يومًا حصد الإعجابات والتفاعلات. وهذا لا يعني أنني لا أُسعد بها؛ فكأي إنسان طبيعي، تعزّز مثل هذه الردود لديّ الشعور بالإنجاز، حتى لو كان زائفًا أحيانًا. إنه شعور لذيذ ومرحّب به، ولكنه في النهاية ليس الأثر الأساسي المقصود من الكتابة.

بالتأكيد، لكلّ شخص الحقّ في تحديد هدفه من إنتاج المحتوى، ولكن أن يتحوّل فعل الكتابة إلى مجرّد أداة للظهور وحصد التفاعلات وزيادة عدد المتابعين، هنا ترتفع علامات الاستفهام! وأنا أتحدّث هنا عن إنتاج محتوى جيّد، ولكن لغرض الظهور فقط، وليس عن المحتوى التافه عديم القيمة. مما يدفعني للتساؤل، كمهني لا أعمل في مجال الترفيه ولا الإعلام ولا التسويق، لماذا عليّ أن أهتم أكثر بفهم كيف تعمل الخوارزميات، وأن أدرس نوع المحتوى الذي يجذب الناس، ثم أبدأ بالكتابة وصناعة محتوى يتوافق مع هذه المعايير، فقط لزيادة التفاعل والمتابعات؟ بينما تضيع هُويّتي الحقيقية شيئًا فشيئًا وسط هذه المحاولات، وتبتلع غياهب النسيان أفكاري الأصلية، فأصبح أسيرًا لمبدأ "الجمهور عاوز كده"؟ ألا تفقد الكتابة بهذا الشكل روحها ومغزاها؟ وتتحوّل إلى سلعة تُقاس قيمتها بعدد الإعجابات، لا بمدى عمقها أو تأثيرها الفكري أو العاطفي.

لا أنكر أنّ التفاعل الرقمي قد يكون محفّزًا ومشجّعًا، لكنني شخصيًا لا أؤمن بأنه يجب أن يكون البوصلة التي توجّه مسار أفكاري. الكتابة الحقيقية، أيًا كانت؛ منشور أو مقالة أو قصة أو كتاب أو غيره، يجب أن تنبع من الرغبة الصادقة في التعبير عن الذات، وتبادل الأفكار، ومشاركة المعارف، وبناء حوار حقيقي مع القارئ، وليس مجرّد إرضاء خوارزميات باردة أو ملاحقة موجة عابرة هنا أو هناك. عندما نكتب من أجل التفاعل فقط، في الغالب سنفقد جوهر الكتابة وروحها، وهو التواصل الإنساني العميق الذي يتجاوز الأرقام والإحصائيات.

عندما نكتب من أجل التفاعل فقط، في الغالب سنفقد جوهر الكتابة وروحها، وهو التواصل الإنساني العميق الذي يتجاوز الأرقام والإحصائيات

في النهاية، أود مشاركة نصيحتين؛ الأولى، لا تسقطوا في فخاخ بائعي الوهم، أولئك الذين يعدونكم ببناء "هوية رقمية" براقة بخطوات سحرية وكأنّها وصفة كعك! تذكروا أنّ الهُويّة الحقيقية المتفرّدة لا تُصنع من قوالب جاهزة، بل تنبع من أفكاركم الأصيلة وقناعاتكم الشخصية وإنجازاتكم الحقيقية على الأرض وليس في العالم الرقمي. عبّروا عن أنفسكم كما أنتم، لا كما تريد الخوارزميات أو الجمهور أن تكونوا. فإن حصدت كتاباتكم التفاعلات، فهذا رائع، وإن لم تفعل، فلن تنتقص الإعجابات المفقودة من قيمتها شيئًا.

والنصيحة الثانية، بينما تحرصون على البقاء أوفياء لأنفسكم، لا تغفلوا عن فخاخ أخرى قد تكون أكثر إيلامًا من تجاهل الخوارزميات، ألا وهي تشريعات الجرائم الإلكترونية! نعم، عبّروا بحرية، ولكن بذكاء. فبعض الكلمات قد تكلفكم أكثر مما تتخيّلون. فلتكن كتابتكم حرّة، ولكن ليس كالطائر الذي ينسى أنّ فضاءنا الإلكتروني قد ازدحم بالأسلاك الشائكة! وهذه ليست دعوة لتعزيز الرقابة الذاتية، ولكن دعوة للتوازن في الطرح والبحث عن فجوات الأسلاك الشائكة كلما أردنا عبورها.

في النهاية، تمسّكوا بأفكاركم، عبّروا عنها بصدق، واحتفظوا بقليل من الحذر. فالعالم الرقمي، مثل الحياة، يحتاج إلى توازن بين الأصالة والانتشار، وبين الحرية والحكمة.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.