الكابتن ماجد وفريق الفاتحين (2/2)

الكابتن ماجد وفريق الفاتحين (2/2)

31 اغسطس 2021
+ الخط -

ما جاء سريعا يذهب سريعا؛ ولذلك حلت نهايتي في الملاعب بأسرع مما توقعت، أسرع حتى من بدايتي.

قلت لكم إنني تألقت فجأة في مركز حارس المرمى بفضل تلك الفتاة الساحرة العينين الكلبوظة الخدين العارية الذراعين، قد تبدو لكم صورة الفتاة متناقضة أو ربما فَجّة، لكنها مطبوعة في ذاكرتي؛ هكذا منذ أن رأيتها لأول مرة وقد طلعت علينا من البلكونة بقميص منزلي لم أكن قد عرفت بعد أنهم سيطلقون عليه يوما ما «كَتّ»، لم يكن ذلك الخروج بذراعين عاريتين أمراً استثنائياً في تلك الأيام الخوالي، كثيرات كُنّ يخرجن إلى البلكونات حاسرات عن أذرعهن، لكن إذا كانت "صوابعك مش زي بعضها" كما يقول المثل، فبالتأكيد لن تكون "ذراعاتك" كذلك.

عمرو؛ أحد رفاقي الذي يسكن في بلكونة تعلو بلكونتها، قال لي إنها تعودت أن تقف أيضا في البلكونة عارية الساقين، وشكر لي في ساقيها جدا، لكنني لم أصدقه، بل ولم أُعِره انتباها، حرصا على عدم نقلها من الخانة الشاعرية إلى الخانة الحسية التي كانت مكتظة بما فيه الكفاية.

أسمع الآن من يسألني عن اسم تلك الفتاة، فيوسوس إليّ الشيطان أن أحتذي حذو شعراء الغزل وأذكر اسمها، لعله في حالة أصبحت خالداً، يصبح هو الآخر اسماً خالداً كما تخلّدت أسماء «عزة وليلى ولبنى ولميس وسعاد وفاطم وعبلة»، وغيرهن من المفضوحات على رءوس الأشهاد على مر العصور، لكنني أجدني عاجزاً بفعل الحياء ومخافة الله والخوف على ولاياي عن ذكر اسمها برغم مرور السنين، فضلاً عن أنني لا أرى في الأفق المنظور أسبابا منطقية تضمن خلود اسمي؛ مما يعني المخاطرة بكشف اسمها للعامة دون أن أضمن له الخلود، يوووه، طيب، بما أنني ذكرت الخوف من الله دعوني أصارحكم للحقيقة والتاريخ بأن ما يمنعني من ذكر اسمها ليس الخوف من الله، بل هو النسيان، أستغفر الله العظيم، الصراحة بقى أن ما يمنعني من ذكر اسمها هو أنني لم أعرف اسمها أبداً؛ لأنها كانت قد انتقلت مع أسرتها إلى المنطقة حديثا، ولم يكن لها إخوة صبيان يمكن أن "ندحلب" أحدهم في الكلام لمعرفة اسمها بأسئلة من نوعية «أنت عندك إخوات قد إيه بقى؟».

كل الرشاوى التي دفعتها لرفيقي الساكن أعلاها لم تفلح في التقاط اسمها أثناء أي محادثات عائلية يحملها الهواء خارج المجال الجوي لشقتها، عندما اتهمته بابتزازي وحجب الحقيقة عمداً، سمح لي بالبقاء عصرية كاملة في بلكونته مشترطاً عليّ ألا أنظر إليها؛ لأنني لن أستطيع السيطرة على نفسي وستفضحني نظراتي، وربما سمعنا كلاماً لا يرضينا من أهله أو أهلها، طالباً مني ألا أنسى الهدف المحدد الذي جئت من أجله وهو التقاط اسمها، وبعد ثلاث ساعات مرت كأنها دهور بدا أنني سأنال مرادي عندما علا صوت والدها يخاطب والدتها: «قولي للجزمة اللي واقفة في البلكونة تخش جوه أحسن أخرج أجيبها من شعرها».

قبل أن يصبح بمقدورنا تعلم أي دروس من أي نوع، كان الشارع هو المأوى الوحيد لأي عَيِّل لا يحب أن يقول عنه أهله «الواد ده مش طبيعي»، وكانت الكرة هي الحلم الواقعي الوحيد بعد أن تجاوزنا مرحلة «غرانديزر انطلِق»

ومع أن اسمها صار منذ ذلك اليوم وسط رفاق الفريق «الجزمة اللي واقفة في البلكونة»، إلا أن ذلك لم يثنني أبداً عن مواصلة إبهارها بالحركات التي جلبت لي عن جدارة لقب (التمساح الطائر)، وبفضلها كانت حراسة المرمى قد تحولت لديَّ إلى إدمان جعلني أتخذ من الحارس الألماني «شوماخر» مثلي الأعلى دولياً، ومن الحارس العراقي «رعد حمودي» مثلي الأعلى عربياً، ومن الحارس العظيم «ثابت البطل» مثلي الأعلى محلياً، بل وتحولت إلى موسوعة متنقلة فيما يخص حراس المرمى بدءا من أسماء أشهر حرّاس المرمى دوليا ووصولا إلى رواية النكت والطرائف والغرائب التي تخص حراس المرمى وعلى رأسها الواقعة الأشهر التي كان بطلها المعلق الرياضي «علاء الحامولي» الذي أفلتت منه كلمة نابية تعليقاً على كرة عبيطة دخلت في حارس مرمى الزمالك «عادل المأمور».

صحيح أن هذه المعرفة الموسوعية لم تفلح في التقليل من «دستات» الأهداف التي كانت تدخل في مرماي كل ماتش، إلا أن ثقتي بنفسي لم تتزعزع ولو للحظة؛ لأن ما كنت أصُدُّه كان أكثر بكثير مما يدخل في مرماي. صحيح أن الأهداف التي كانت تدخل في مرماي كان يمكن صد أغلبها لو لم أكن منشغلا بالنظر إلى حيث تقع بلكونتها، التي كانت لسوء الحظ تقع خلف المرمى، لكن تعاطف الفريق مع حبي الأفلاطوني للجزمة اللي واقفة في البلكونة كان كافيا لتفَهُّم موقفي، فضلا عن أنه لم يكن أحد في الفريق يفعل ما عليه، ويكفيك في ذلك أن لدينا رأس حربة، الهدف الوحيد الذي أدخله في شباك أحد خصومنا كان نتيجة ارتطام الكرة بمؤخرته.

*    *    *

«طيب إذا كنتم فشلة إلى هذا الحد المخجل فلماذا كنتم مصممين على الاستمرار في لعب كرة القدم؟»، بالطبع سؤالك منطقي تماما، لكنه كما يقول المؤرخون خارج عن السياق التاريخي تماما؛ لذلك أنصحك أن تحتفظ به لنفسك وتتركني أكمل حكايتي.

الكذب خيبة، لم يكن لنا في الكورة، ولكن لم يكن لنا غيرها أيضا، لو كنت قد شهدت طفولتك في تسعينيات القرن العشرين فلك أن تحمد الله على ما أسبغه عليك من آلاء نِعَمِه؛ لأنه لم يشأ أن يجعلك تعيش طفولتك في سبعينيات ذلك القرن مثلنا، حيث لم يكن على أيامنا لا "بلاي ستيشن" ولا "أتاري" ولا قنوات أطفال ولا أطفال شوارع؛ لأن الشوارع لم تكن إلا للأطفال.

كنا أصغر وأفقر من الجلوس على القهوة للعب الدمنة والطاولة وشرب السجاير، وبالطبع كنا «أرجَل» من اللعب في الخرابات وبالقرب من شريط القطر، ستفهم قصدي إذا كنت قد تلقيت عرضاً للعب في خرابة أو بجوار شريط قطر، سواءً كنت قد قَبِلت ذلك العرض أم رفضته بحمد الله، باختصار يا سيدي لم نكن أطفالاً في أيسلندا لكي تخيرنا بين الذهاب إلى القبة السماوية لمشاهدة مدارات الأفلاك، أو قضاء الوقت بصحبة الكائنات الإسفنجية في متحف الأحياء المائية، أصلاً أنا  لم أعرف أن هناك متحفا للأحياء المائية في الإسكندرية إلا في سنين المراهقة، عندما اصطاد صديق لي سمكة متعددة الألوان بشكل مقلق، وصحبني معه في رحلته إلى المتحف لكي يبيعها لمسئولي المتحف، وبرغم أننا وصلنا متأخرين بسبب زحام المواصلات، إلا أن صديقي البارع من يومه في البيزنس باع السمكة لأحد السياح اليابانيين أمام قلعة قايتباي والذي «نفح» صديقي ورقة مالية كادت ألوانها تجعله يخر مغشيا عليه، أخذنا الكورنيش جريا حتى أقرب شركة صرافة في محطة الرمل، وهناك اتضح أن ما نحمله ليس يناً يابانياً كما أفتيت، بل ورقة من عملة سنغافورة التي لم يكن أحد في محطة الرمل وما جاورها يعرف وقتها موقعها على الخريطة، فضلا عن معرفة اسم عملتها، ولا «تجيب كام بالمصري»، ومع ذلك وبفعل العشم سأل صديقي ذلك السؤال ليتلقى عليه إجابة قبيحة من صراف أشِرّ، لكن الفائدة التي لا تقدر بمال والتي حصلنا عليها ذلك اليوم، هو أنه ليس كل آسيوي يابانياً أو صينياً بالضرورة.

وقبل أن يصبح بمقدورنا تعلم أي دروس من أي نوع، كان الشارع هو المأوى الوحيد لأي عَيِّل لا يحب أن يقول عنه أهله «الواد ده مش طبيعي»، وكانت الكرة هي الحلم الواقعي الوحيد بعد أن تجاوزنا مرحلة «غرانديزر انطلِق»، كنا سيئي الحظ لدرجة جعلتنا نفارق الطفولة قبل ظهور «الكابتن ماجد» ليصبح فتى الأحلام الأول. كان حلم الكرة حتى ذلك الوقت حلما رومانسيا منزها من دنس المادة، فلم نكن قد دخلنا في مصر، ولا في العالم بأسره، عصر الاحتراف الذي يساوي اللاعبون فيه الشيء الفلاني، كانت أقصى ميزة يمكن أن يحصل عليها اللعيب الحريف هي السماح له بأن يأكل في أي وقت شاء من "كانتين" النادي، فضلاً عن الحصول لأقاربه في مواسم الانتصارات على ترينجات وكوتشيات وشرابات وغيارات داخلية غير متوفرة في السوق المحلية.

نعم كانت الأحلام مجانية، لكني دفعت ثمناً باهظاً للإفاقة منها، يومها طارت الكرة صوب مرماي، فخطفت نظرة إلى فتاة أحلامي التي سأصارحك بأنها كانت تكبرني بعشر سنين على الأقل، كأنني أستأذنها في أن أطير في الهواء، ثم أطير في الهواء، أو هكذا كنت أظن، لتستقر الكرة في أحضاني، ويستقر رأسي في أحضان الحجر الأيسر للمرمى الذي لم يكن حنوناً أبداً فأطار الدماء من رأسي، غبت عن الوعي للحظات، أفقت بعدها على أيادٍ تزغد وأقدام تركل ووجوه تتساءل، كنت لا أزال متشبثاً بالكرة بكل إخلاص، واصلت إمساكها بيدي اليمنى، وباليد اليسرى أزحت أكثر من جسد يحجب عني رؤية من أحب، كنت أريدها أن تراني غارقاً في تضحيتي، وعندما باتت بلكونتها في مجال رؤيتي لم تكن هي واقفة هناك، لم أسمع سوى اللعنات تنصب عليّ من جميع من حولي، ربما سمعت كلمة «بُنّ» لكنني لم أفهم علاقتها بالموضوع، لا أذكر الآن ما الذي حدث بعدها بالضبط، لكنني أعرف جيدا كلما مررت على تلك الوسعاية، أن أحلامي في أن أصبح يوماً ما أسطورة كروية لفظت أنفاسها هنا، على حجر كان هنا، سالت عليه كريات دمي الحمراء؛ لأنني كنت وقتها أعتقد أن كريات الدم البيضاء لونها أبيض.

...

من مجموعتي القصصية الثالثة (الشيخ العيِّل) أهديها إلى روح صانع البهجة الكروية الأبرز في حياة جيلي دييجو مارادونا عليه ألف رحمة ونور، تصدر طبعة جديدة من المجموعة عن دار المشرق بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.