الفراغ الدستوري في سورية: تحديات الانتقال من حالة الاستثناء إلى سيادة القانون
يُعدّ الفراغ الدستوري أحد أبرز التحديات التي تواجه الأنظمة السياسية والقانونية، حيث يؤدي غياب الدستور أو تعليقه دون وجود إطار قانوني بديل إلى تفكّك المرجعية الدستورية المنظّمة لعمل السلطات والعلاقة بين الحاكم والمحكوم. في هذا الإطار، برزت حالة مثيرة للجدل عندما أعلنت الحكومة السورية الجديدة في 12 كانون الأوّل/ديسمبر 2024 تعليق العمل بالدستور والبرلمان لمدّة انتقالية تمتدّ ثلاثة أشهر، بالتزامن مع بدء عمل الحكومة المؤقتة.
ورغم أنّ هذه الخطوة قد تُفهم كجزء من عملية انتقالية، إلا أنّ غياب إعلان دستوري مؤقت يحدّد أسس الحكم خلال هذه المرحلة أدى إلى إثارة نقاش قانوني عميق حول شرعية هذا التعليق وتداعياته على استقرار النظام القانوني والسياسي.
التدابير الاستثنائية والفراغ الدستوري
من المتفق عليه أنّ الحكومات، في أوقات الأزمات، قد تضطر إلى اتخاذ تدابير استثنائية لحماية مواطنيها والحفاظ على النظام العام. وغالبًا ما تلجأ الحكومات إلى إجراءاتٍ خاصة لمواجهة تحديات تعجز القوانين العادية عن معالجتها. ومع ذلك، قد تؤدي هذه التدابير أحيانًا إلى طمس الحدود بين الشرعية والضرورة، مما يفتح الباب أمام شلل مؤسسات الدولة وتهديد الاستقرار السياسي. كما أنّ غياب الرقابة القانونية في هذه الحالات يزيد من احتمالية حدوث تجاوزات وانتهاكات.
من أبرز التدابير الاستثنائية التي تعتمدها الحكومات في مثل هذه الظروف إعلان حالة الطوارئ، وهي وضع قانوني تُقرّه الحكومة عندما تواجه البلاد تهديدات استثنائية كالحروب، الكوارث الطبيعية، أو الاضطرابات المدنية. في ظلّ حالة الطوارئ، يُسمح للحكومة بتقييد بعض الحقوق والحريات بشكل مؤقّت لمعالجة الأزمة. ومع ذلك، يجب أن تلتزم هذه التدابير بالقواعد القانونية، وأن تكون محدّدة المدة ولا تستمر إلا بقدر ما تقتضيه الضرورة.
التاريخ السوري وحالة الطوارئ
لا تُعدّ هذه الحالة غريبة على السوريين؛ إذ إنهم لم يعرفوا، منذ استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، فترات طويلة خالية من حالات الطوارئ التي غالباً ما كانت تُرافق الانقلابات العسكرية. وكان أبرزها حالة الطوارئ التي أعلنها نظام البعث بالتزامن مع انقلاب 8 آذار 1963، واستمرت حتى اندلاع المظاهرات في سورية عام 2011. وعقب إنهاء حالة الطوارئ في عام 2011، لجأ النظام السوري إلى سلسلة من الإجراءات الاستثنائية الأخرى التي اعتُبرت تدابير طارئة للتعامل مع الاضطرابات الداخلية. إلا أنّ هذه التدابير، التي اتُخذت تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، استُخدمت بشكلٍ ممنهج لتبرير القمع وتقييد الحريات، مما أدى إلى انتهاكاتٍ واسعة لحقوق الإنسان.
إنّ غياب إطار قانوني واضح قد يهدّد الحقوق الأساسية ويُعرّض البلاد لمزيد من عدم الاستقرار
ومع ذلك، يختلف النموذج السوري في تطبيق حالة الطوارئ عن التجارب العالمية. ففي دول أخرى، مثل الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، وفرنسا عقب الهجمات الإرهابية عام 2015، وإيطاليا خلال جائحة كورونا عام 2020، لجأت الحكومات إلى إجراءات استثنائية استجابةً للأزمات. إلا أنّ هذه التدابير غالبًا ما بقيت ضمن الإطار القانوني والدستوري، وأُعلن عنها رسمياً، وخضعت لرقابة قضائية لضمان احترام الحقوق والحريات.
حالة الاستثناء في السياق السوري
ما يميّز حالة الطوارئ، من الناحية القانونية والتشريعية، هو أنها إجراء يتم ضمن مظلّة الدستور، يُعلن عنه بشكل رسمي وفق آليات محدّدة، ويبقى خاضعًا للمراجعة القضائية لمنع أيّة إساءة في استخدامه. إلا أنّ الوضع في سورية لا ينطبق عليه هذا التوصيف، إذ لم تُعلن الحكومة الجديدة حالة الطوارئ أو الأحكام العرفية. وبدلاً من ذلك، ومع تعليق الدستور من دون إصدار إعلان دستوري جديد، دخلت البلاد فعلياً في إطار قانوني يُعرف بـ"حالة الاستثناء". في هذه الحالة، تتوقف الدولة عن الالتزام بالقوانين الدستورية العادية، وتُمنح السلطات التنفيذية صلاحيات غير محدودة لمعالجة الأزمات الطارئة. كما تُهمَّش المؤسسات القانونية مثل المحاكم، مما يعيق أيّ دور للمراجعة القضائية أو الرقابة أو المساءلة.
رغم وجود أمثلة واقعية على تطبيق حالة الاستثناء، إلا أنها تُعتبر حالة استثنائية ذات تأثيرات عميقة على النظم السياسية والقانونية. أوّل تطبيق بارز لها في العصر الحديث كان في ألمانيا النازية عقب حريق الرايخستاغ عام 1933، عندما أصدر أدولف هتلر مرسوماً لتعليق الحقوق الدستورية الأساسية، مما مكّنه من توسيع سلطاته وتحويل النظام إلى ديكتاتورية شمولية.
من الضروري أن تتخذ الحكومة السورية المؤقتة خطوات عاجلة لتوضيح الوضع الدستوري وإعادة بناء الثقة بين السلطات والشعب، مستفيدة من تجارب الدول الأخرى التي واجهت ظروفاً مشابهة
تكرّر هذا النموذج في اليونان بعد الانقلاب العسكري عام 1967، حين عُلّق الدستور الديمقراطي دون إصدار إعلان دستوري جديد، واستمر حكم المجلس العسكري حتى سقوطه عام 1974. وهناك أمثلة أخرى، مثل أفغانستان بعد انقلاب 1978، والسودان بعد إطاحة جعفر النميري عام 1985، والعراق عقب الغزو الأميركي عام 2003.
على غرار هذا النهج، شهدت سورية حالة استثناء مماثلة بعد انقلاب 8 آذار 1963، حيث أُلغي الدستور دون إعلان دستوري بديل، وبقيت البلاد دون إطار دستوري واضح حتى إقرار دستور 1973. هذا النمط يعكس تاريخاً من الابتعاد عن الدستورية والحوكمة الرشيدة، حيث تُدار البلاد غالبًا في ظلّ فراغ قانوني يمنح السلطة التنفيذية حريّة مطلقة.
ما الذي يجب فعله لمعالجة الفراغ الدستوري؟
إنّ معالجة الفراغ الدستوري تتطلّب نهجًا متكاملًا يهدف إلى استعادة الشرعية وتنظيم العمل الحكومي بما يحقّق الاستقرار ويمنع إساءة استخدام السلطة. البداية تكون بإصدار إعلان دستوري مؤقت يمثل وثيقة قانونية واضحة تنظّم السلطات خلال الفترة الانتقالية، مع ضمان حماية الحقوق الأساسية وتحديد صلاحيات السلطات المختلفة. ومن الضروري وضع جدول زمني محدّد يتضمّن موعدًا لإنهاء الفترة الانتقالية، مع خطوات واضحة لصياغة دستور جديد أو تعديل الدستور السابق، وربط ذلك بخطط عمل مفصّلة تعزّز التقدّم نحو النظام الدستوري.
إلى جانب ذلك، يجب تعزيز الشفافية وبناء الثقة من خلال توضيح خطط الحكومة وأسباب التدابير الاستثنائية، مع إشراك المواطنين في النقاشات العامة وتشجيع الحوار مع مختلف الأطراف السياسية والمجتمع المدني. كما ينبغي تفعيل الأطر الرقابية، عبر تمكين القضاء للإشراف على تنفيذ الإجراءات الانتقالية، وتشكيل هيئات مستقلة لمراقبة الحكومة وضمان احترام حقوق الإنسان. وأخيرًا، تُستحسن الاستفادة من التجارب الدولية بدراسة حالات مشابهة وطلب الدعم الفني والاستشاري من منظمات متخصّصة لضمان نجاح العملية الانتقالية.
إن ما يحدث في سورية الآن يمثل نموذجاً واضحاً لحالة استثناء وفراغ دستوري في آن واحد. وبينما قد تكون نيّة الحكومة تنظيم الأمور خلال الفترة الانتقالية، فإنّ غياب إطار قانوني واضح قد يهدّد الحقوق الأساسية ويُعرّض البلاد لمزيد من عدم الاستقرار. لذا من الضروري أن تتخذ الحكومة خطوات عاجلة لتوضيح الوضع الدستوري وإعادة بناء الثقة بين السلطات والشعب، مستفيدة من تجارب الدول الأخرى التي واجهت ظروفاً مشابهة.