الفتية المتنمرون

27 ابريل 2025
+ الخط -

المساعدة التي قدمت لإحدى السيدات المسنات جلبت لي الكثير من الدعوات الصادقة، أكثرها إثارة للانتباه، قولها: "الله يغلبك على من عاداك". كنتُ سأرد عليها بالقول: "سيدتي، ليس لي أعداء، ولا أريد من الله أن ينصرني على أحد، غير رأسي الذي يجلب لي الكثير من المتاعب". في الأخير، فضلت أن أتجاهل وسوساتي، مرددًا آمين بعد كل دعاء تفوهت به.

نفسي الأمارة بالسوء لم تدعني وشأني، فبين الفينة والأخرى، تعيد على مخيلتي الحديث الذي دار بيني وبين السيدة الطيبة، ويحثني على التفكير في الأمر، وهأنذا أنصاع لوشوشاته الشيطانية، أفتح تطبيق الوورد وأبدأ بالكتابة عن الحادثة، لتكون مقدمة للكتابة عن موضوع لطالما استأثر بتأملاتي الطويلة، وطفا مجددًا في الأيام الأخيرة مع التغيرات التي أحدثها صعود اليمين المتطرف في الدول الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية.

عندما كنا صغارًا، شغفنا بقصص الرسوم المتحركة، جعلنا نتشبع بفكرة مفادها أن العالم مسرح لصراع أزلي بين الأشرار والأخيار. وبما أننا صغار ننزاح بشكل تلقائي إلى نصرة الخير والأخيار.

عندما نكبر، ونعيش التجارب الحياتية الأولى، نصاب بالكثير من التشويش، بما أن الحدود الصارمة التي رسمناها في صغرنا، الفاصلة بين المفهومين، تبدأ بالتلاشي. بعضنا يتشبث بما ترسخ في الوجدان ويرفض باستماتة إعادة النظر في المسلمات التي آمن بها، ويستمر في العيش في عالم من الأوهام تغذيه نظرية المؤامرة. وآخرون يخوضون مغامرة التدقيق في كل ما لُقِّن لنا، بالحفر عميقًا في أصل هذين المفهومين، وتاريخهما الممتد على مدى القرون الماضية، ليتضح أنهما مفهومان مفخخان بالكثير من الأيديولوجيا.

نحن محكومون بشرطنا الإنساني كائنات فانية تحركها غريزة البقاء، ومع ذلك قادرون على العيش المشترك بما أن الأرض تحوي ما يوفر للجميع حياة كريمة

تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار تستعمله بكثرة الحركات الفاشية، إنها من بين الاستراتيجيات التي تتسلح بها من أجل التمويه على أهدافها الخبيثة المتمثلة أساسًا في شيطنة الآخر، ونزع صفة الإنسانية عن المختلف من أجل وصمه أخلاقيًا، وقد يصل بها الأمر إلى التصفية الجسدية. ولنا في خطابات الفتية المشاغبين الذين ملؤوا وسائل الإعلام التقليدية ووسائط التواصل الاجتماعي خير مثال على ذلك. فهي تعيد إحياء خطابات الكراهية المقيتة، في تماهٍ تام مع ما يرضاه كبيرهم المتصابي، الذي لا تنقصه إلا تميمة المهرجين، الأنف الأحمر، لنعيش معه عرضًا ساخرًا بعيدًا عن المسرح، ومن داخل أروقة عاصمة الدولة التي تقود العالم في حرب تستنسخ بشكل رديء صراعات أفلام الكرتون.

العالم المعاصر يمر بأزمة حقيقية، أزمة متعددة الأبعاد، لعل الخطير فيها محاولة الفاشيين الجدد إعادة كتابة التاريخ، بمحو الفظاعات التي ارتكبوها خلال التاريخ الحديث، وتشويه الذاكرة الجماعية، يساعدهم في ذلك نوع من التراخي تعيشه الحركات الإنسانوية التي ركنت إلى نوع من الكسل الفكري نتيجة المقولات التي بشرت بنهاية التاريخ وانتصار الحضارة على التوحش (بالمعنى الأيديولوجي).

أصبح من الملحّ أن نعيد التدقيق في هذه الخطابات المارقة التي تريد العودة بنا إلى الوراء. والتأكيد على أننا كبشر ليس فينا لا أخيار ولا أشرار، لا ملائكة ولا شياطين. الأكيد أننا محكومون بشرطنا الإنساني، باعتبارنا كائنات فانية تحركنا غريزة البقاء، فنحنو على من يتيح لنا الاستمرار والخلود ونقسو على من يضمر لنا الأذى والفناء، ومع ذلك نحن قادرون على العيش المشترك بما أن الأرض تحوي ما يوفر للجميع حياة كريمة إذا ما أحسنّا الحفاظ على مواردها الحيوية.

مدونات أخرى