العودة المأمولة، ولكن؟
شكّلت أفواج العائدين والعائدات إلى سورية مشهدًا احتفاليًّا يحتاج إلى لغة خاصّة وإلى توصيفات لم يكتبها أحد من قبل، ربّما لأنه لم يعشها أو لم يرها أحد من قبل بهذه الطريقة المميّزة، النوعيّة، والجديدة تمامًا، أو ربّما وببساطة بالغة قد تكون قد حصلت من قبل لكن لم يصوّرها أحد، أو أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن متاحة لتتويج هذه العودة كما تستحقّ. شكّلت حالة العودة هذه واقعًا جديدًا، عصيًّا على التوقّع، مفرحًا ومبكيًا في الوقت نفسه، لكنّه مثير للأسئلة جرّاء الدهشة الكبيرة، مثير للتفاعل، والأهمّ أنّه تحوّل إلى مشهد جماعيّ وكأنّه جزء رئيس من مشهد النصر وزوال نظام الطغيان.
العودة الحاصلة والتي تتكرّر يوميًّا تمتلك حيويّة مميّزة تليق بالخلاص، البيوت المهدّمة كانت تنتظر، الأهل والأصدقاء، الأسرّة الفارغة والقدور المهملة والأهل الذين باتوا عُجزاً ومثقلين بالتعب والمرض والغياب، كلّهم كانوا ينتظرون الأحبّة. حتى القبور ابتلّت عروقها واستقبلت العائدين بالنواح والشوق ومرارة الفقد والرغبة المطلقة بالتصديق، تصديق أنّ معانقة ضريح أو لمس تراب قبر ابن أو أب أو أمّ أو حتى صديق بات فعلًا ممكنًا، بات مؤكّدًا توفّر مكان في الوطن المأمول، كي يذرف السوريّون والسوريّات دموع الشوق والحبّ والنصر فيه.
بات للموت وقع مختلف بعد النصر الكبير! لذلك يتحوّل موت والد صديقة عائدة أثناء وجودها في مطار بيروت إلى فاجعة مضاعفة، رحيل الأب وعجزها عن توديعه ورؤيته حيًّا بفارق سويعات معدودة! شكّلوا حزنًا بليغًا وعظيمًا يجعل من الموت خسارات متعدّدة وليست مجرّد وداع ورحيل شخص غال. باتت العودة بحدّ ذاتها ألمًا مضاعفًا حين تموت أمّ فور انتهاء ولديها من شراء بطاقات العودة إلى دمشق، هو الموت يصير غصّات متلاحقة لأنّه جاء في اللحظة الفارقة ما بين خسارة الوطن التي تحوّلت إلى يقين ثابت وكأنّه لن يعود أبدًا، وما بين صدمة وجوديّة أعادته من حيث لم يتوقّع أحد وفي وقت عبر بدهشة الحلم وارتعاش الولادة من جديد، بل وسهّلت إمكانيّة اكتسابه والعودة إليه من جديد.
على ضفّة الشوق، ينتظر سوريّون كثر، يترقّبون العودة بقلق وحذر، يدقّقون في احتماليّتها، يقيسون فكرة العودة بميزان الصائغ، الذي يهمّه إنجاز قطعة جميلة ومربحة في ذات الوقت
تتوارد الصور وكأنّها مقدّمات لملاحم متعدّدة ومتفرّقة! طالما كنّا نقول إنّ الفلسطينيّين، وبحكم صراعاتهم الطويلة مع الاحتلال ومع العذاب والقهر المديد، قد طوّروا وعمّموا سيلًا هادرًا من اللغة الوطنيّة والسرديّات العامّة الفريدة المشبعة بالمعاني العميقة وبالإرادة النابضة النبيلة المميّزة، لكنّ السوريّين اليوم يفصحون عن مكنونات لغتهم الجديدة، عن فصاحة التشرّد والاغتراب وفقدان الأمل، نعم، وعبر عودتهم وزياراتهم ووقع خطاهم واحتفالاتهم، يسطّر السوريّون أبجديّة جديدة، غزيرة، حنونة، مبكية ومفرحة، أبجديّة انتصاريّة رغم دموع الفراق، انتصاريّة رغم العودة إلى البيوت المهدّمة وكأنّها مجرّد رفات معدّ للمقابر فقط.
تتوارد الصور وفيديوهات اللقاءات وكأنّها سجّادة بارعة ترمّم قطبها المخفيّة، سجّادة أضاع حائكها إبرته الصلبة الماهرة القادرة على شدّ الخيوط إلى بعضها بحبّ يكفي للأبد، وبمتانة ومهارة فريدة كي تحمي هذا الحبّ.
تفوّقت العودة المأمولة على كلّ المحاولات المحمومة للفرار، وكلّ تجارب الهجرة السابقة، ليس بالعدد، بل بالعاطفة الغامرة، بالأمنيات الجميلة، بالأحلام الممتدّة من الخراب وحتى اكتمال البنيان! الروابط هنا صور، بعضها مهتزّ بفعل رجفة الشوق، وبعضها خائف من فرط الحبّ.
صارت الصورة قاموسًا لغويًّا جديدًا، والكلّ راغب في الإفصاح وفي عرض الصور والتقاطها لتعميم السرديّة السوريّة الجديدة.
على ضفّة الشوق، ينتظر سوريّون كثر، يترقّبون العودة بقلق وحذر، يدقّقون في احتماليّتها، يقيسون فكرة العودة بميزان الصائغ، الذي يهمّه إنجاز قطعة جميلة ومربحة في الوقت نفسه، والربح هنا يعني المستقبل لا القيمة النقديّة المباشرة.
يبدو أنّنا لا نختبر علاقتنا بالوطن حين نخسره فقط! بل حين نستعيده أيضًا. هذه الاستعادة التي فجّرت أنهارًا من الحبّ وسيولًا من الصور.