العلاقات السورية - العراقية: من الانقسام إلى التكامل
بالتوازي مع التحولات العميقة التي تشهدها المنطقة، تبرز ضرورة صياغة علاقة سورية - عراقية جديدة، قائمة على المصلحة الوطنية المشتركة، لا على الإرث السياسي أو الاصطفافات الأيديولوجية. إن سقوط النظام السوري في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، بانتصار إرادة الشعب، غيّر المعطيات الإقليمية بشكل جذري، وفرض على دول الجوار السوري مراجعة مواقفها ومساراتها الخارجية في ضوء التوازنات الجديدة.
وجد العراق نفسه، كدولة جوار، أمام مرآة جيوسياسية تنعكس على بيئته الداخلية، وتؤثر في طبيعة علاقته مع سورية الجديدة. وبينما تتشكل إدارة سورية مختلفة الملامح، تواجه بغداد ودمشق تحديات مشتركة تتعلق بإعادة تعريف أسس العلاقة الثنائية، وسط تشابهات تاريخية ومصلحية لا تقل أهمية عن التباينات السياسية. في هذا المقال، نستعرض أبرز ملامح هذه العلاقة في ضوء المتغيرات، وتحديات إعادة بنائها على أسس استراتيجية أكثر توازناً واستدامة.
- - إرث البعث وتبعاته على تقلبات العلاقات السورية - العراقية
عانى كل من العراق وسورية من حقبة استبداد حزب البعث، وهيمنة الحكم الفردي، وما تخلل ذلك من خلافات سياسية وفكرية وصلت في بعض الفترات إلى حد القطيعة بين بغداد ودمشق. ثم خضع مسار التغيير السياسي في كلا البلدين لإرادة الحليف الإيراني، بدءاً من الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وتولي بشار الأسد الحكم في سورية قبل ذلك بثلاث سنوات.
تحسّنت العلاقات بين الطرفين بدعم من طهران، ونجحا في تقريب وجهات النظر ضمن مشروع تكاملي أصبح جزءاً مما عُرف بـ"الهلال الإيراني" في المنطقة. ومنذ عام 2003 وحتى اندلاع الثورة السورية عام 2011، كانت سورية تنظر إلى علاقاتها مع بغداد من منظور تحالف إقليمي تحكمه الجغرافيا والمصالح الاقتصادية.
لكن مع اندلاع الثورة السورية، تحوّل هذا الموقف إلى ضرورة ملحّة بالنسبة لنظام بشار الأسد على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية. وقد جاء هذا التحول مدفوعاً بالدعم الإيراني المكثف، وبالضغط المتواصل على صناع القرار في العراق لمساندة النظام حتى لحظة سقوطه. هذا التوجه ترك أثراً عميقاً في الوعي السياسي والجمعي السوري، مخلّفاً ندوباً يصعب تجاوزها بسهولة.
- - الأمن القومي المشترك وتحديات الحدود والتنسيق الثنائي
يتقاسم العراق وسورية حدوداً يبلغ طولها نحو 600 كم، تُعد مسرحاً نشطاً لتهديدات أمنية من قبيل تهريب المخدرات، وتحركات تنظيم داعش، والمليشيات العابرة للحدود، هذه التحديات الأمنية تمثل نقطة التقاء واضحة بين الطرفين، لكنها في الوقت نفسه تشوبها الكثير من التعقيدات.
مثّل سقوط النظام السوري ضربة موجعة لإيران، التي فقدت إحدى أهم ركائز نفوذها الإقليمي
فالجانب السوري لا يسيطر بالكامل على الشريط الحدودي مع العراق، إذ تهيمن "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) على أجزاء واسعة منه، وتُستخدم تلك المناطق في عمليات تهريب النفط والسلاح. وما زال هذا الواقع قائماً، ويتوقف تغييره على نتائج المفاوضات بين الدولة السورية و"قسد"، التي تفرض نفوذها فعلياً من شمال البوكمال إلى نقطة التقاء الحدود السورية - العراقية - التركية.
أما الجانب العراقي، ورغم بنائه جداراً أمنياً على طول الحدود مدعوماً بتقنيات مراقبة متقدمة، فإن هواجس دمشق تبقى قائمة من تسلل مجموعات متطرفة موالية لإيران عبر الأراضي العراقية. وهو ما تعتبره تهديداً مباشراً لأمنها القومي، لا سيما في ظل نفوذ وخبرة هذه المجموعات في التحايل على الإجراءات الحدودية واختراق الشريط من طرق غير شرعية، وهو ما يُربك المعادلة الأمنية ويُعقّد التنسيق بين الطرفين.
- - التأثير الإيراني على الديناميكيات السورية - العراقية
مثّل سقوط النظام السوري ضربة موجعة لإيران، التي فقدت إحدى أهم ركائز نفوذها الإقليمي. ولا يزال تأثير طهران قوياً في مفاصل السلطة العراقية، من خلال أدواتها وخطابها التحريضي الذي يعمّق الانقسامات الوطنية داخل كلا البلدين وفيما بينهما على حد سواء، ويُعدّ ضبط هذا الخطاب ويُرتب مسؤوليات مشتركة على الطرفين في تفكيك إرث الانقسام المذهبي لإعادة بناء علاقة متوازنة تدعمها إرادة وطنية وشعبية.
في المقابل، تُواجه سورية تحديات الانقسام الطائفي الناتج عن إرث النظام السابق وتبعات التدخل الإيراني خلال فترة الحرب، وما ولّده ذلك من ردّات فعل دينية وفكرية، ناتجة عن التوتر المذهبي.
ويُعد هذا الملف من أكثر القضايا حساسية لدى البلدين، لما يحمله من أبعاد إقليمية ترتبط بلاعبين يستثمرون في الانقسام لخدمة مصالحهم، في وقت يتطلب فيه تحقيق الاستقرار الداخلي نزع فتيل الطائفية وتحجيم أدواتها.
- - الفرص الاقتصادية بين الشراكة والتكامل
يمثل الاقتصاد قاطرة ممكنة لإعادة بناء العلاقات والحفاظ على مستويات تقدمها. وتمتلك الصادرات السورية حصة جيدة في السوق العراقية، منافسةً للبضائع التركية والإيرانية، ما يجعل تعزيز هذه العلاقة أولوية للإدارة السورية الجديدة، نظراً لدورها الحيوي في دعم الاقتصاد الوطني خلال مرحلة التعافي، وإعادة الإعمار، ودعم خطط الاستثمار.
في المقابل، تتطلع بغداد إلى الانفتاح على دمشق اقتصادياً من خلال الاستفادة من موانئها البحرية لتصدير النفط، والدخول في شراكات مستقبلية بمجال الطاقة المتمثلة في الغاز والربط الكهربائي، وهو ما طُرح رسمياً خلال زيارة الوفد العراقي إلى دمشق ولقائه مع الرئيس السوري أحمد الشرع مؤخراً.
كما أن مشاريع الربط التجاري عبر الأراضي العراقية والسورية، ضمن خطوط الترانزيت الكبرى (الهندي - الصيني - الأوروبي)، تُعد فرصة ذهبية لكلا البلدين، خاصة في ظل التوترات التي تشهدها خطوط الملاحة في البحر الأحمر، نتيجة الحرب في غزة واليمن، وعدم استقرار مسارات التجارة التقليدية.
يشكل هذا الواقع دافعاً مشتركاً لسورية والعراق نحو التنسيق والتكامل في إطار منظومة التجارة الدولية الجديدة، كجزء من إعادة تموضع إقليمي يُعيد رسم خرائط النفوذ والفرص، والذي يشكّل أرضية صلبة لتكامل بعيد المدى.
- - مستقبل الوجود العسكري التركي وإعادة تشكيل التوازنات الأمنية والإقليمية
يتشارك العراق وسورية مخاوف الجانب التركي على حدوده الجنوبية، لا سيما فيما يتعلق بنشاط حزب العمال الكردستاني (PKK) وفروعه، حيث تحتفظ أنقرة بقوات عسكرية في كلا البلدين، تخضع لتفاهمات أمنية وسياسية تختلف بواعثها بين دمشق وبغداد، ويُحتّم هذا الواقع إعادة صياغة مقاربة ثنائية تُوازن بين متطلبات السيادة والمصالح المشتركة، وضرورات التنسيق الأمني مع أنقرة.
وفي بعد آخر للوجود التركي، وما يرتبط به من تداخلات في ملف "قسد" و"العمال الكردستاني"، تعتبر مخاوف التداخل الأمني والتنافس الإقليمي بين إيران وتركيا تحدياً مشتركاً لاستقرار ومصالح سورية والعراق. كما يُعدّ هذا الملف من "الخطوط الحمراء" بالنسبة للمنظومة العربية، ما يستوجب من العراق وسورية إدارة هذا التوازن بحساسية عالية، تجنباً لتكرار سيناريوهات الصدام أو الاستقطاب.
بالنظر إلى المتغيرات الجذرية في المشهد السوري، تبدو الفرصة سانحة لإعادة بناء العلاقة بين البلدين على أسس مصلحية عقلانية، تتجاوز منطق المحاور والأيديولوجيا. فالعراق، بوصفه لاعباً إقليمياً بين قوى متنازعة، وسورية الخارجة من حقبة الانغلاق السياسي والحرب الطويلة، يمكن أن يؤسسا معاً لشراكة استراتيجية مرنة تقوم على الأمن المشترك، والتكامل الاقتصادي، والتنسيق الإقليمي، إنّ نجاح هذه العلاقة مرهون بقدرة الطرفين على تبني مقاربة واقعية تستثمر الجغرافيا وتستوعب التحولات الدولية والإقليمية، دون الانزلاق في حسابات الأيديولوجيا أو ردات الفعل، بذلك، يمكن للعلاقة السورية العراقية أن تتحول من جسر عبور للنفوذ، إلى قاعدة استقرار في قلب المشرق.