العفاريت المصرية المحبوسة في رمضان

العفاريت المصرية المحبوسة في رمضان

27 ابريل 2021
+ الخط -

في عام 1966 نشرت مجلة (المصور) العريقة عدداً خاصاً عن شهر رمضان، أفردت بعض صفحاته لتحقيق عن احتفالات المصريين برمضان عبر مئات السنين، كتبه الصحفي كمال سعد والفنان التشكيلي حلمي التوني، ولفت انتباهي فيه جزء ممتع عن الاعتقاد الشعبي الذي ينتشر بين المصريين عن العفاريت المحبوسة في شهر رمضان، بشكل مختلف عن الحديث الشائع عن سلسلة إبليس في الشهر الكريم لكفّ وسوسته عن الصائمين.

أشار الكاتبان إلى ما كتبه المستشرق الإنجليزي إدوارد لين صاحب الكتاب الشهير (المصريون المحدثون) ولقائه بعدد من "بسطاء المصريين" الذين حدثوه عن اعتقادهم في وجود الجن بينهم على شكل قطط وكلاب وحيوانات أخرى، وقالوا له إن العفاريت المؤذية التي تقف في النوافذ والحجارة لا تستطيع أن تفعل ذلك في شهر رمضان لأنها تكون محبوسة، ولذلك ما إن ينتهي شهر رمضان حتى تسرع النساء في ليلة العيد، وهات يا رش ملح في جميع حجرات المنازل، وهن يذكرن اسم الله حتى يمنعن العفاريت من اقتحام بيوتهن.

من أطرف الأساطير التي رواها إدوارد لين عن هذا الاعتقاد الشعبي قصة رجل قاهري اسمه خليل المدابغي كانت له قطة سوداء أحبها لدرجة أنها كانت تنام على باب منزله كأنها حارس أمين يحرسه ويحميه من المتطفلين، وفي إحدى الليالي سمع خليل حواراً بين قطة وزائر الليل ينقله الكاتبان عن إدوارد لين على النحو التالي الذي يجعل القطة تتحدث بالفصحى، في حين يمزج الجني بين الفصحى والعامية كما يليق بأمثاله من الشياطين المنحرفين لغوياً:
ـ أنا الجني، افتحي الباب.
ـ القطة: لا أستطيع فكالون الباب مُسمّى عليه.
ـ الجني: إذن أعطيني جرعة ماء.
ـ القطة: لا أستطيع، إبريق الماء مُسمّى عليه.
ـ الجني: طيب احدفي لي قطعتين من الخبز.
ـ القطة: سلة الخبز مُسمّى عليها.
ـ الجني: طب أنا جعان يا قطة.
ـ القطة: اذهب إلى المنزل المجاور تجد ما تريد.

لم يقاطع خليل هذا الحوار، بل كتم رد فعله حتى الصباح، ولم يفسر لنا إدوارد لين ولا من حكى له كيف راح خليل في النوم، لكنه استيقظ مبكراً لكي يعزم القطة على نصف فطيرة طازجة وكان ذلك على غير عادته، فقد كان بخيلاً بعض الشيء، وبعد أن انتهت القطة من أكل نصف الفطيرة بتلذذ، اتضح أن العزومة لم تكن لوجه الله، فقد كان خليل طمعاناً في قدراتها الخارقة، ولذلك قال لها: أنا رجل فقير يا قطتي فهل تستطيعين مساعدتي وتأتين بقليل من الذهب.

لكنه قبل أن يكمل سؤاله، كانت القطة الخارقة قد اختفت من بيته إلى الأبد، لتترك خلفها أسئلة كثيرة عن هويتها، هل كانت جنياً طيباً يحميه من أبناء جلدتها الأشرار، أم أنها كانت وهماً وراءه الحشو الموجود في الفطيرة التي تعشى بها ولم يرغب في إشراكها فيها قبل أن ينام.

لم ينقل حلمي التوني وكمال سعد عن إدوارد لين حكاياته عن العفاريت المصرية المحبوسة في شهر رمضان فقط، بل نقلوا عنه بعض ما دونه من حكايات عن التقاليد الشائعة بين المصريين في شهر رمضان، ومنها مثلا أن أبناء الطبقة العالية والمتوسطة وبعض أطفال الطبقة العاملة في مصر كانوا يحصلون مع دخول شهر رمضان على منحة تساعدهم على استكمال دراستهم في الكتاتيب التي كانوا يتعلمون فيها قواعد الحساب إلى جوار تلاوة القرآن وترتيله، لكن المنحة التي كان يحصل عليها الفقي الذي يدرس في الكُتّاب كانت أكثر قيمة، فقد كان يحصل على طربوش وقطعة من الشاش ليلف بها عمامته وقطعة من القماش التيل وزوج من الأحذية، أما التلامذة فقد كان كل منهم يحصل على طاقية من القماش القطن وحذاء، وفي بعض الكتاتيب الأقل حظاً لم يكن الطلبة يحصلون على شيء سوى قرش أو نصف قرش ليشتروا بها ما يريدون.

...

أسرع الخطباء في مصر

من أطرف ما قرأته خلال تصفحي لأعداد مجلة (كل شيء والدنيا) التي كانت دار الهلال تصدرها في الثلاثينات، موضوع رئيسي نشرته المجلة في صدر أحد أعدادها بعنوان (تاكسي الخطباء: إحصاء طريف لسرعة خطبائنا)، قال كاتبه إنه فكر في عمله بعد أن استمع ذات مرة إلى خطاب ألقاه الزعيم الوفدي "صاحب الدولة" مصطفى النحاس باشا، فاندهش من سرعته في الإلقاء، ووصف المعاني والأفكار بأنها "تأتيه صاغرة لتنطلق من فمه متدفقة".

وحين وقع في يد المحرر الذي لم يذكر اسمه إحصاء قام به مخترع في باريس يقوم بإحصاء سرعة الخطباء، قرر أن يقوم بهذه المهمة ولكن بالورقة والقلم، ودون جهاز كالذي اخترعه الفرنسي، وبدأ إحصاءه في مؤتمر أقامه حزب الوفد، ثم في احتفال أقيم بمناسبة تأبين المرحوم شيخ العروبة أحمد زكي بمسرح الأوبرا، واكتشف أن أسرع الخطباء الذين سمعهم هو الأستاذ محمود بسيوني الذي بلغ متوسط ما يلقيه من كلمات هو 190 كلمة في الدقيقة ليسبق بذلك أسرع خطيب في فرنسا والذي حقق رقم 185 كلمة في الدقيقة.

النحاس باشا تصوير أرمان

أما مصطفى النحاس فقد اتضح أنه يخطب بسرعة 165 كلمة في الدقيقة، وهو رقم أقل من الرقم الذي حققه الزعيم الوفدي وقتها إبراهيم عبد الهادي والذي نجح في "نتع" 170 كلمة في الدقيقة، أما مكرم عبيد الذي لم يكن وقتها قد انشق عن حزب الوفد وكان من ألمع الخطباء ومن أشهر من يلقون مرافعات نارية أمام المحاكم فقد حقق رقم 150 كلمة في الدقيقة، وهو نفس الرقم الذي حققه المحامي والسياسي البارز صبري أبو علم، في حين تراجع الشيوخ في القائمة برغم احترافهم لإلقاء خطب الجمعة، فحقق الشيخ عبد الوهاب النجار رقم 140 كلمة في الدقيقة، ولم يحقق الشيخ رشيد رضا أكثر من 110 كلمة في الدقيقة، ليتضح من مقارنة المحرر بين الخطباء أن متوسط سرعة خطباء مصر في منتصف الثلاثينات يتراوح بين 160 كلمة و150 كلمة في الدقيقة.

لا أذكر أنني قرأت بعد ذلك محاولة في الصحف لإحصاء عدد كلمات الخطباء، ربما لأن العقلاء اكتشفوا عدم جدوى الخطب والكلمات أياً كانت سرعة المتحدثين بها.

...

الفقرة الإعلانية:

من إعلانات شهر رمضان في مطلع الخمسينات اخترت لك هذين الإعلانين:

الصورة
إعلانات راديو شهر رمضان

 

الصورة
إعلانات شهر رمضان

...

وختاماً مع الكاريكاتير:

في صحيفة (الأهالي) نشر فنان الكاريكاتير الرائع حجازي هذه الكاريكاتيرات التي لا تحتاج إلى تعليق حين تعرف أنها نشرت بتاريخ 8 مايو 1991:

الصورة
حجازي 8 مايو 91 (2)

 

الصورة
حجازي 8 مايو 91 (3)
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.