العربية وأخواتها
كيف نادى المسيح ربّه؟
سؤال راودني وأخذتني الإجابة عليه إلى عوالم ساحرة، يتفاعل فيها الإنسان مع محيطه ليفرز لغاتٍ وأبجدياتٍ ولهجات. ووجدتني وأنا أتتبّع نشوء لغات المشرق وتطوّرها أطوفُ بين صفحات تاريخنا ومنابعِ شخصيتنا.
أغلب الظن أنّ المسيح عليه السلام كان يدعو ربه بلفظة "الله" أو "إله"، فالكلمة الدالة على الرب أو الإله في لغة المسيح "الآرامية" تُنطَقُ "Alaha" أو "ِAllah" أو "Eelaah". وهذا التشابه بين تلك الكلمات ونظيراتها العربية يقودنا إلى منابع تلك اللغات؛ الآرامية والعربية (كما الأكادية والعبرية والأمهرية وغيرها) من اللغات السامية. وتتميّز هذه اللغات بخصائص مشتركة كاحتوائها على الحروف الحلقية، وكونها لغات اشتقاقية (تعتمد على السوابق واللواحق لزيادة المعنى)، وكذلك انطوائها على ظاهرة الإعراب. ويدل هذا التشابه على أنّ تلك اللغات ربّما تنحدر من أصل واحد هو "السامية الأولية".
ونحن إذا أردنا أن نفهم نشأة اللغات "السامية" وتطوّرها وتفاعلاتها، فإنّ تأملاً واعياً في سيرة الأنبياء وهجراتهم سيضع أقدامنا على بداية الطريق. نشأ أوّل الأنبياء نوح عليه السلام في بلاد ما بين النهرين، وقد مثّل طوفانُ نوحٍ بدايةً جديدةً للعالم، ومثّلت ذرية نوح جيلاً جديداً للبشرية. ينتسب سكان جزيرة العرب وتخومها في الأردن والشام وفلسطين إلى نسل سام ابن نوح، ولذلك سميّت لغاتهم باللغات السامية. ومن ذات النسل، جاء إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، ونشأ هو الآخر في العراق، وربّما تحدّث نسخة من نسخ اللغة الأكادية، وهي لغة بلاد ما بين النهرين التي عنها تفرعت الأشورية (لهجة الشمال) والبابلية (لهجة الجنوب). ثم اتجه إبراهيم وذريته غرباً عبر نهر الفرات. ولعل اسم العبرانية والعبرانيين راجع لهذه الهجرة. ربّما أكسبت تلك الرحلةُ إبراهيمَ ونسله من بعده لغات منطقة الشام، كالكنعانية.
امتزجت الكتابات الكنعانية بالهيروغليفية (المصرية القديمة) في النقوش السيناوية (أو الكتابة السيناوية البدائية)، والتي يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد
امتدّت هجرات إبراهيم عليه السلام إلى مصر، وعلى دربه سار يوسف وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام الذين زاروا مصر أو أقاموا فيها، وكذلك بنو إسرائيل الذين آوتهم مصر لقرون عديدة حتى خروجهم الكبير وتيههم في سيناء ثم عودتهم إلى الأرض المقدّسة. وكما حملت رياح الشرق إلى مصر أنوار الهداية، جلبت معها أطماع الغزاة. وفي الحالتين، كانت لغات العراق والشام تتسلّل إلى وادي النيل لتختلط بلغة المصريين وتتفاعل معها.
وصلت الأكادية (العراقية) والكنعانية (الفلسطينية-الشامية) إلى قلب مصر القديمة وتركت بصمتها في رسائل تل العمارنة. وامتزجت الكتابات الكنعانية بالهيروغليفية (المصرية القديمة) في النقوش السيناوية (أو الكتابة السيناوية البدائية)، والتي يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وتمثل تلك الكتابة نموذجاً من أقدم نماذج الكتابة بالأبجدية (بدلاً من الإديوغرافية أو الكتابة باستخدام الصور والرموز)، ويرجّح أنها الأصل الذي تفرّعت عنه الكتابة السامية الشمالية القديمة، والتي تُعتبر الكتابة الآرامية فرعاً من فروعها.
وهكذا، ظلّت اللغات السامية تتطوّر وتتفاعل في ما بينها ذهاباً وإياباً من الهلال الخصيب إلى مصر وبالعكس على مرّ آلاف السنين. وفي ذات الوقت، كانت الجزيرة العربية تحيط بالعرب وتعزلهم لغوياً (ولو بشكل نسبي) عن تلك التفاعلات. وفي داخل هذا الحيّز الجغرافي والديموغرافي المنعزل، كانت لغة سامية أخرى (هي اللغة العربية) تنمو وتتطوّر لكن في فلكها الخاص وبطريقتها الخاصة. أغلب الظن أنّ اللغة العربية لم تحتك باللغات السامية الشمالية (كالآرامية) إلّا قُبيل ميلاد المسيح.
اللغة العربية هي أقرب اللغات إلى الأكادية، ومن ثم إلى السامية الأم
لا يصح وصف العربية إذن بأنها نسخة من الآرامية أو بأنها فرعٌ لها، بل هما "أُختان" تجمعهما أصول مشتركة. لكن الأبجدية العربية الحديثة لها حكاية مع الآرامية، فبينما كُتبت العربيةُ الجنوبية القديمة بأبجدية خاصة بها هي الكتابة "المسندية"، تطوّرت الأبجدية العربية الشمالية عن الكتابة النبطية. والأنباط الذين ازدهرت دولتهم في شمال الجزيرة العربية وجنوب الشام في القرن الثاني قبل الميلاد، هم عرب تحدّثوا العربية في حياتهم اليومية مع إتقانهم للآرامية. والكتابة النبطية هي تدوين للغة العربية الشفهية بالحرف الآرامي. ولهذا تُعتبر الكتابة النبطية نموذجاً بينياً (أو متوسطاً) بين الأبجدية الآرامية والعربية "الحديثة". وقد وصلتنا تلك الكتابة عن طريق شاهد قبر امرئ القيس المسمّى بنقش النُمّارة.
وهكذا، امتدّت مسيرة اللغات السامية عبر التاريخ والجغرافيا، وتشعبت فروعها وامتزجت عناصرها بحيث أصبح من الصعب أن نجزم بأصل تلك اللغات أو بشجرة نسبها. أغلب الظن أنّ الأكادية هي أقدم أفراد عائلة اللغات المسمّاة "السامية". واللغة العربية (التي احتفظت -في نسختها المنطوقة- بنقائها عبر عزلتها في صحراء العرب) هي أقرب اللغات إلى الأكادية، ومن ثم إلى السامية الأم.