العراق.. بين ديمقراطية المحاصصة ودولة الفساد
حين انهار النظام العراقي عام 2003، وجدت النخب السياسية الدولية والمحلية أنّ الديمقراطية التوافقية تمثل الحلّ الأمثل لضمان السلم الأهلي وإدارة التنوّع الديني والقومي والسياسي. استند هذا الاختيار إلى تجارب دولية ناجحة، مثل النموذج البلجيكي الذي نظّم العلاقة بين الفلامنكيين والوالونيين عبر ترتيبات تقاسم للسلطة، والنموذج الألماني الذي اعتمد آليات ديمقراطية توافقية لتحقيق استقرار سياسي دائم بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أنّ النسخة العراقية من هذا النموذج لم تُفضِ إلى استقرار الدولة، بل أسهمت في تفكيك مؤسساتها وإعادة إنتاج الانقسامات الاجتماعية، فيما ساهمت المحاصصة السياسية في تغذية بنية فساد معقّدة، يصعب اجتثاثها عبر الأدوات التقليدية للإصلاح.
تقتضي الديمقراطية التوافقية، كما صاغها آرنت ليبهارت، أن تتوزّع السلطة بين المكوّنات الأساسية للمجتمع عبر اتفاقات فوق سياسية، يتم فيها استيعاب جميع القوى الفاعلة تجنّباً للإقصاء. تقوم هذه الآلية على جملة من الشروط المُسبقة، أبرزها وجود ثقافة مدنية تؤمن بالتعدّدية وتلتزم بها، ودولة قانون قوّية تحمي النظام الديمقراطي، وهُويّة وطنية قادرة على تجاوز الولاءات الفرعية. في ألمانيا، مثلاً، أدّت التجربة التوافقية إلى بناء نظام سياسي متوازن بين ولايات متباينة ثقافياً ولغوياً، تحت مظلّة جمهورية اتحادية قوّية ومتماسكة. وفي بلجيكا، رغم التعقيدات البنيوية، استطاع التوافق أن يحوّل الانقسام اللغوي إلى نظام سياسي مرن، يقوم على مشاركة فعلية في الحكم مع استمرار تنافس ديمقراطي صحي.
على العكس من ذلك، جاء تطبيق الديمقراطية التوافقية في العراق من دون تأسيس بيئة حاضنة لها. لم تترسّخ ثقافة التعددية السياسية، إذ ظلّت الطائفية والإثنية تحكم الانتماءات والمواقف، فيما بدت الدولة أضعف من أن تفرض حيادها فوق الصراعات المجتمعية. عوضاً عن أن تكون الديمقراطية التوافقية وسيلة لحماية التنوّع، تحوّلت إلى قنوات لتوزيع الغنائم بين الأحزاب الطائفية والقومية. ومع غياب شعور وطني جامع، سقطت فكرة المواطنة المتساوية أمام منطق الولاءات الفرعية، فبدت الدولة ساحة مفتوحة للتنافس على الموارد أكثر من كونها إطاراً قانونياً موحّداً لإدارة المجتمع.
ساهمت المحاصصة السياسية في تغذية بنية فساد معقدة، يصعب اجتثاثها عبر الأدوات التقليدية للإصلاح
لقد أدى هذا الواقع إلى تحزّب مؤسسات الدولة، حيث جرى توزيع الوزارات والهيئات المستقلة والدوائر الحكومية وفق حصص طائفية وحزبية دقيقة. لم تعد الكفاءة معياراً للتعيين، بل أصبح الانتماء السياسي والطائفي هو الطريق الرئيسي للوصول إلى المناصب. وبهذا تحوّلت البيروقراطية العراقية إلى شبكة محسوبية متشابكة، تفتقر إلى أبسط مقومات الفعالية والاحتراف.
وفي ظلّ هذا المشهد، نما الفساد ليصبح عنصراً بنيوياً في النظام السياسي لا مجرّد انحراف عرضي. فالفساد، الذي غالباً ما يُختزل في مظاهر الرشوة أو التلاعب الإداري، تجاوز في العراق هذه الأشكال إلى نمط أعمق وأكثر تدميراً؛ فساد محمي سياسياً ومؤسّسيًا. كلّ حزب يوفّر الحماية لأفراده داخل أجهزة الدولة، ويمنع محاسبتهم أو حتى مساءلتهم، مما أدى إلى انهيار كامل لمنظومة الرقابة والمساءلة. كما أنّ التوظيف السياسي الواسع، بعيداً عن مبدأ الجدارة، رسّخ ممارسات فساد يومية اعتادها المواطن العادي حتى أصبحت جزءاً من ثقافة التعامل مع الدولة.
إنّ هذا الارتباط العضوي بين المحاصصة السياسية والفساد المؤسسي أنتج بيئة سياسية مغلقة، يصعب فيها التغيير الجوهري. فمحاولات الإصلاح المتكرّرة، سواء جاءت من داخل النظام السياسي أو من الحركات الاحتجاجية، غالباً ما اصطدمت بجدار صلب من المصالح المتداخلة بين الأحزاب والمكوّنات، التي ترى في استمرار الوضع القائم ضامناً لمصالحها السياسية والمالية.
تمكن مقارنة هذه التجربة بمثالين متناقضين. ففي ألمانيا، رغم الفيدرالية الواسعة والتعدّد الثقافي، لم تنشأ شبكة فساد مُمأسسة، لأنّ آليات الرقابة القضائية والإدارية كانت محايدة وقوّية، مدعومة بثقافة سياسية ترى في الفساد تهديداً وجودياً للنظام الديمقراطي. وفي بلجيكا، ورغم الانقسامات العميقة، بقي تقاسم السلطة خاضعاً لقواعد دستورية صارمة، حدّت من تسرّب المحاصصة إلى الإدارات الدنيا وضمنت قدرًا من الشفافية والمحاسبة.
التوظيف السياسي الواسع، بعيداً عن مبدأ الجدارة، رسّخ ممارسات فساد يومية اعتادها المواطن العادي حتى أصبحت جزءاً من ثقافة التعامل مع الدولة
في العراق، غابت كلّ هذه المحدّدات، فالدولة ضعيفة، والثقافة السياسية طائفية بطبيعتها، والمؤسسات الرقابية خاضعة للمحاصصة، مما جعل الفساد ممارسة طبيعية وضرورية لبقاء النخب الحاكمة. وبدلاً من أن يكون الإصلاح مشروعاً وطنياً شاملاً، ظلّ شعاراً للاستهلاك السياسي، تُرفع راياته عشية الانتخابات وتُطوى في اليوم التالي لتقاسم المناصب. لقد أظهرت احتجاجات تشرين 2019 بشكل جلي هذا الإخفاق العميق؛ إذ طالبت بإنهاء المحاصصة ومحاسبة الفاسدين، لكنها واجهت عنفاً شديداً وإصراراً من النظام القائم على البقاء من دون تغيير جوهري، وهو ما يؤكّد أنّ الأزمة ليست أزمة وجوه سياسية، بل أزمة بنية كاملة، تحتاج إلى إعادة صياغة العقد الاجتماعي من جديد.
بناءً على ذلك، لا يمكن النظر إلى فشل الديمقراطية التوافقية في العراق باعتباره فشلاً للنموذج ذاته، بل ينبغي فهمه في ضوء الشروط الموضوعية التي حالت دون تحقيقه؛ ضعف الدولة، هيمنة الولاءات الضيقة، غياب المساءلة، وانتشار ثقافة الفساد. من دون معالجة هذه القضايا البنيوية، سيظلّ أيّ نموذج ديمقراطي مستورد عاجزاً عن تحقيق الاستقرار أو بناء دولة حديثة.
إنّ إعادة بناء العراق تتطلّب أكثر من مجرّد إصلاحات إدارية أو تغيير قوانين الانتخابات. إنها بحاجة إلى ثورة ثقافية حقيقية، تعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وتعزّز منطق المواطنة فوق منطق الطائفة والحزب. وحدها هذه الثورة يمكن أن تفتح الباب أمام بناء نظام ديمقراطي قادر على استيعاب التنوّع لا تفجيره، وتحويل السلطة من أداة للنهب إلى وسيلة لإدارة الشأن العام بشفافية وعدالة.