Skip to main content
العاقل يعض المجنون

امتاع و مؤانسة

خطيب بدلة
في إحدى سفراتنا، الفنان عمر حجو وأنا، إلى مستشفى الأمراض العقلية الواقع بالقرب من قرية (دويرينة) شرق مدينة حلب، روى لنا المشرف على جناح المجانين حكاية طريفة. قال:
قبل حوالى أربع سنوات من الآن اتصل بي صديق عزيز يدعى "أبو ابراهيم"، وأعلمني بأن لديه فضولاً لأن يزور المستشفى ويلتقي بالمجانين، فأخبرته أن بإمكانه الحضور متى يشاء، ولكن من الضروري جداً أن يُحضر معه تصريحاً بالزيارة من مدير المستشفى، أو من مدير الصحة بحلب.

ومضت أيام وأسابيع، والرجل لم تسمح له مشاغله الكثيرة بالمجيء. وذات يوم قرر أن يأتي فذهب إلى مدير الصحة بحلب وحصل على تصريح بالزيارة.

وفي طريقه إلى هنا، التقى بصديقنا المشترك أبي الجود، وسأله عن وجهته، فقال له (إلى مستشفى الأمراض العقلية). فقال له أبو الجود:

- هل تأخذني معك؟
فقال له: تعال.

وحينما وصل الاثنان، في سيارة أبي إبراهيم، إلى باب المستشفى طلب منهم الموظف المختص التصريح بالدخول، فقدم أبو إبراهيم تصريحه، فقال له الموظف:
والأخ (مشيراً إلى أبي الجود)، هل يحمل تصريحاً؟
ووقتها شعر أبو إبراهيم بأنه واقع في مأزق، وأنهم قد يمنعون أبا الجود من الدخول بسبب التعليمات الصارمة التي بين أيديهم. وفي تلك اللحظة خطرت له فكرة غريبة، سرعان ما نفذها، إذ قال مخاطباً موظف الاستعلامات:
- الأخ (يقصد أبا الجود) مجنون، بعيد من قبالي، وأنا أحضرته إلى هنا لأسلمكم إياه!
وأما أبو الجود، فعلى ما يبدو راقت له الفكرة، وسرعان ما مد يديه وشد عضلاتهما، وشوس عينيه، ونخر، وهجم على الموظف، وعضه من ساعده عضة من النوع الذي يسمونه في العرف الشعبـي (قفل ومفتاح).. والموظف يصيح، والموظفون الآخرون، وبضمنهم المجانين الطلقاء، يضربون أبا الجود ويحاولون فك أسنانه عن ساعد الموظف، فما فكها حتى ارتسمت أسنانه فوق الساعد على شكل دائرة كاملة.

المهم في الموضوع اقتنع الموظف، ومَن حوله، وحتى المجانين الطلقاء، بأن أبا الجود مجنون نظامي، فسمحوا له ولأبي إبراهيم بالدخول.
قلت للمشرف: صدقني إنها حكاية طريفة جداً!
فقال: ولكن نهايتها لم تكن طريفة على الإطلاق.
قلت: كيف انتهت؟
قال: أمضى أبو ابراهيم وأبو الجود عندنا حوالى ساعتين، وقد سررت بزيارتهما كثيراً، خاصة وأن السيد أبا الجود، كما اتضح لي، شخص ظريف للغاية، ولديه العشرات من القصص التي تأخذ الألباب بجمالها، ومقدرة عجيبة على التشويق أثناء روايتها.
المهم، غادرني الاثنان في نهاية الدوام تقريباً. وحينما وصلا إلى الباب لاقاهما موظف الاستعلامات، وقال لأبي إبراهيم:
- بإمكانك أنت أن تغادر، وأما الأخ فيبقى هنا!
قال أبو إبراهيم: لماذا؟
فقال الموظف: لأنه مجنون، والمجنون لا يخرج من هنا إلا بشهادة شفاء موقعة من الطبيب المعالج، ومدير المستشفى، ومصدقة من مديرية صحة حلب أصولاً!
قال أبو إبراهيم: عفواً يا أخ، هل صدقت أنه مجنون؟ من دون مبالغة عقله يزن جبلاً. كل ما في الأمر أننا مَثَّلْنا عليك دور الجنون لكي تسمح له بالدخول!
فقال الموظف: حسناً، ما دام الأمر كذلك، ابتعد عنه.

وأطبق الموظف على ساعد أبي الجود في عضة من النوع الذي يسمونه (قفل ومفتاح)، لم ينفع معه أن تكاثر الموظفون الآخرون عليه، وأبو إبراهيم، والمجانين الطلقاء، لكي يرغموه على فك أسنانه عن ساعد أبي الجود، فلم يفلحوا حتى كاد يقطع له قطعة من لحمه. ثم قال لأبي ابراهيم:

- بإمكانك أن تنقلع أنت وهو. درب الصد ما رد!!