الضرب على المؤخرة في فرع المخابرات

الضرب على المؤخرة في فرع المخابرات

22 سبتمبر 2021
+ الخط -

(الجزء الثالث من سيرة المعلم أبو أحمد)

كنت أتحدث، عبر "الواتساب"، مع معلم المدرسة "أبو أحمد"، المقيم في مدينة إدلب، واكتشفتُ، أثناء ذلك، أن هذا الإنسان بارع في سرد الحكايات الواقعية، فكأنه المرحوم "محمد نور قَطِّيع" الذي كنا نصغي إلى حكاياته باهتمام، وكلما اجتمعنا معه نطلب منه أن يعيد علينا سرد حكاية سمعناها منه سابقاً، لأنه، أثناء الإعادة، يضيف إليها تفاصيل و(بهارات) جديدة ممتعة، ترفع من شأنها، وتجعلها أكثر رسوخاً في الذاكرة والوجدان، فنستخلص: أن التكرار ممل إذا قام به شخص ممل، ورائع إذا بدر عن راوٍ متمكن قادر على الإمساك بناصية الحكاية حتى منتهاها.

كان "أبو أحمد" يحدثني عن رجل من أوساخ المنطقة الواقعة بين مدينتي إدلب وحماه، يقال له (أبو رستم)، أقام حاجزاً للتفتيش في قريته، دون أن يكلفه النظام أو المعارضة بذلك، ودون أن يستأذن أحداً، ووصل خبرُه إلى أحد فروع المخابرات في حماه، فاستدعوه.

أسرع أبو رستم بالذهاب إلى حماه، متزنراً - كما يقول أهل إدلب - بقضامة أريحا، (كناية عن الثقة الزائدة)، ومشى إلى الفرع الأمني الذي طلبه منتفخاً، متكبّشاً، فرحاً بإنجازه، متوقعاً أن يأخذه عناصرُ الفرع بالأحضان، لأنه افتتح حاجزه ليكون سنداً لحواجز النظام، وتعبيراً منه عن الإخلاص للعهد، وللقائد المفدى.

المهم، التقى به رئيس الفرع، وسأله عن سبب إقدامه على هذا العمل، فراح يخطب متحدثاً عن حبه القاتولي للقائد بشار الأسد، ووالده حافيييظ من قبله، ومعرفته الأكيدة بوجود مؤامرة على صمود سورية، عقوبة لها على تصديها للإمبريالية والصهيونية والإرهاب!.. ولكن ثقبه - كما يقولون في الأمثال - طلع على خراب، إذ سرعان ما مل رئيس الفرع من خطابته، ووقف مُنهياً الجلسة، واستدعى أربعة من "البغال" الذين يقفون على بابه، وأمرهم بإنزال هذا الحيوان "أبو رستم" إلى القبو، ووضعه في الدولاب، وضربه بلا شفقة.

ضحكت وقلت: كأنك يا أبو أحمد تتحدث عن بيع بقرة أو بيكآب داتسون، حتى استخدمت مصطلح (القعود على البازار)

قال محدثي (المعلم أبو أحمد) وهو يضحك بشماتة: لم تُجْدِ توسلاتُ "أبو رستم" إلى رئيس الفرع. ألقى نفسه على قدميه وهو يبكي ويعتذر عما بدر منه، مبدياً أتمَّ الاستعداد للتوقف عن الخطابة، والتفاهم معه على كل شيء. أجابه رئيس الفرع بأن التفاهم على كل شيء سيحصل، بالطبع، ولكن ليس قبل أن تقعد في الدولاب مثل الكرّ، ويضربك الشباب كم عصاية على مؤخرتك هذه الشبيهة بالدَسْكا.

سألني أبو أحمد: أنت تعرف الدَسْكا أبو المراديس؟

قلت: طبعاً أعرفها، ولو. الدَسْكا مصطلح إدلبي. إنها الطاولة الكبيرة التي كان مصلحو الأحذية (الإسكافيون) يضعون عليها أدواتهم، أيام زمان.. وهي تمتاز بالضخامة، والاتساخ، والكركبة.

قال أبو أحمد: بالضبط. المهم؛ أبو رستم أكل قَتلة من النوع الذي يسميه أهل الشام (حَشْك ولَبْك)، وقد ركز البغال الذين ضربوه، بشكل خاص، على مؤخرته الشبيهة بالدسكا، تنفيذاً للتوجيهات (الحكيمة) التي تلقوها من معلمهم. بعدها جيء بـ "أبو رستم" مرة أخرى إلى مكتب رئيس الفرع. جلس رئيس الفرع وراء مكتبه، ودعاه للجلوس، فاعتذر، لأنه لم يعد قادراً على ذلك، بسبب الألم الشديد في مؤخرته. ولئلا يغضب منه "المعلم" أوضح (أبو رستم) أن الشباب أوادم، طيبون، وقد كارموه بالفعل، فلو ضربوه على بطنه أو رأسه أو عظامه لألحقوا به أذى كبيراً، وأما المؤخرة فمتعودة على هذا الأمر. المهم، قعد رئيس الفرع وأبو رستم على البازار.

ضحكت وقلت: كأنك يا أبو أحمد تتحدث عن بيع بقرة أو بيكآب داتسون، حتى استخدمت مصطلح (القعود على البازار).

قال بمنتهى الجد: لا، ولكن الجماعة، أقصد رجال المخابرات، صار عندهم، خلال السنوات الأخيرة، خبرة في مجال الحواجز، ولذلك يستحيل أن يسمحوا لواحد طرطور مثل "أبو رستم" أن يضحك عليهم. المهم، طلب منه رئيس الفرع مبلغاً يساوي المعدل الوسطي لما يدره حاجز واحد من حواجز النظام من أموال شهرياً. أبو رستم اعترض، بانكسار، وحلف يميناً معظماً أن (الشغلة ما بتوفّي معه)، لأسباب كثيرة، أولها أن الحاجز الذي أنشأه ما زال جديداً، وهناك ركاب قادمون من إدلب أو من حماه لا يعرفون بوجوده، ولا يحملون نقوداً إضافية لأجله، وهو يضطر أحياناً للتفتيش في جيوبهم، وثانيها أن حاجزه لا يمتلك الهيبة التي يمتلكها اسم الأمن العسكري أو الأمن السياسي أو الأمن الجوي أو أمن الدولة أو حتى الدفاع الوطني، وثالثها، وهذا هو الأهم، أن بعض السائقين الخبثاء اكتشفوا طريقاً ترابياً فرعياً صاروا يسلكونه، وبذلك يتجنبون المرور بحاجزه. الخلاصة، اتفق الطرفان على أن يدفع أبو رستم كل شهر مبلغاً أقل من المبلغ الذي طلبه رئيس الفرع. ووقتها سمح له بالمغادرة.

قلت: عظيم. الآن، بعد إذنك، يا أبو أحمد، سنرجع إلى السياق الأصلي للحكاية. كنتَ تحدثني عن الأيام التي كنتم فيها - أنتم المعلمين والمدرسين - تذهبون من إدلب إلى حماه لتقبضوا رواتبكم المتراكمة. وحكيت لي عن وجود حوادث للمخابرات والجيش والشبيحة، وللجهاديين، ووصلنا إلى أن هذا الحقير أبو رستم أضاف حاجزاً ينطبق عليه قول عادل إمام في مسرحية شاهد ما شفش حاجة (هو أنا ناقص؟).. سؤالي الآن: كم كان يتوجب على الرجل الذي يغامر بالسفر من إدلب إلى حماه (ذهاباً وإياباً) أن يدفع لحواجز النظام والمعارضة و"أبو رستم" الحقير؟

قال: إذا كان المسافر يقظاً، مفتحاً، حويطاً، مثلي، يكفيه راتب شهر واحد. ففي تلك الفترة يا أستاذ، أي قبل إغلاق المعابر من قبل تنظيم القاعدة (حكومة الجولاني)، كان الموظف يذهب إلى حماه مرة واحدة كل ستة أشهر، يدفع راتب شهر واحد على هيئة رشاوى للحواجز، ويَتَبَهْنَك (أي: يتنعم) برواتب خمسة الأشهر الباقية، أو لنقل، على طريقة المذيع علاء الدين الأيوبي: يصرفها على الملذات الشخصية.

ضحكت وقلت: الأحلى في مقابلات المذيع علاء الدين الأيوبي ليس موضوع صرف المسروقات على الملذات الشخصية.

قال: فما هو إذن؟

قلت: كان الأيوبي، ذلك المذيع النحرير، يسأل الحرامي عن شعوره وموقفه من السرقة الآن، بعدما وقع في قبضة الشرطة الساهرين على أمن الوطن والمواطن، فيجيبه بأن السرقة عمل دنيء، ومَن يرتكبه مرة لا يمكن أن يعيده في يوم من الأيام. وعندما يسأله إن كان لديه سوابق يقول: نعم. عندي سبع سوابق!

(للسالفة تتمة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...