الصين وأميركا: إدارة النفوذ بين الاحتواء والصراع

15 ابريل 2025
+ الخط -

تُمثّلُ العلاقاتُ الصينية الأميركية حالةً خاصةً ونمطاً فريداً من العلاقات الثنائية؛ إذ تجمعُ بين كافة عناصر التنافر والتنافس والتعاون، إذ تشهد أحياناً تعاوناً استراتيجياً وتبادلاً تجارياً يصلُ إلى حدّ التكامل الثنائي، وأحياناً أخرى إلى حدّ النزاع والخصام، بدرجاتٍ متفاوتةٍ، وهذا طبيعيٌ في ظلّ تنافس الطرفين في ميادين التجارة والاقتصاد والسياسة والتنمية والأمن؛ فضلاً عن التنافس الإقليمي.

وقد تتأرجحُ علاقتهما في منتصف الطريق بين الاندماج وحافة الهاوية، أو التهديد بشن "حرب تجارية" متبادلة، انتقاماً من سياسات أو إجراءات يتّخذُها طرف تجاه الآخر، خاصة في المجال التجاري؛ أو الأمني حيث الخلاف في بحر الصين الجنوبي والشرقي وشبه الجزيرة الكورية وأمن المحيط الهادئ. ومع ذلك فإن العلاقة بين الصين والولايات المتحدة تُوصف بأنها العلاقة "الأكثر أهميّةً في العالم" أو علاقة "الاثنين الكبار" (G2) في النظام الدولي؛ والتي تُطلق عليهما حصراً.

ولا شك في أنّ صورة التهديد التي كانت متبادلة بين الطرفين منذ منتصف القرن العشرين، قد تغيّرت منذ زيارة الرئيس الأميركي الأسبق، ريتشارد نيكسون، إلى بكين في عام 1972، حيث أرست أسساً جديدة للتعاون والتفاهم بين الطرفين، ثم اختفت ملامح القلق والتوتّر بينهما بصورة أكبر، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فبحث الطرفان عن المصالح المشتركة في الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا.

يتوقّع خبراء الاقتصاد أن يصبح الاقتصاد الصيني الأكبر عالمياً بحلول عام 2030، بعدما تجاوز بسهولة كلاً من اليابان وألمانيا

يمتلك البلدان شبكة مصالح واسعة، ويسعيان لزيادة نفوذهما العالمي سياسياً واقتصادياً، فالصين، كقوّة صاعدة، تتبنى استراتيجيات لتعزيز حضورها الدولي، بينما تواصل الولايات المتحدة أداء دورها كقوّة مهيمنة في نظام أحادي القطبية، ورغم اعتراف الصين بمكانة واشنطن ومصالحها، خاصة في المحيط الهادئ، إلا أنها تختلف معها بشأن مناطق النفوذ في آسيا، وتفضّل الحلول الدبلوماسية والتعاون الأمني.

وفي إطار سعيها لتقليص النفوذ الأميركي في شرق آسيا، تعزّز بكين وجودها في بحر الصين الجنوبي والشرقي، بينما تقرّ واشنطن بقدراتها العسكرية، وقد وصفها الرئيس الأسبق جورج بوش بأنها "خصم قوي" لا يمكن تجاهله. كما تعارض الصين الهيمنة الأميركية على آسيا وتنتقد حقوق الإنسان وفق المفهوم الغربي، مؤكّدة قدسية سيادتها الوطنية.

اقتصادياً، تواصل الصين تحقيق نمو مذهل في التجارة والتكنولوجيا والتسلّح، محتلة المرتبة الثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، ما أثار قلق واشنطن منذ سنوات، ودفعها إلى تطوير استراتيجيات لاحتواء هذا الصعود ومنع تحوّل بكين إلى قوّة مهيمنة على النظام الدولي.

ويتوقّع خبراء الاقتصاد أن يصبح الاقتصاد الصيني الأكبر عالمياً بحلول عام 2030، بعدما تجاوز بسهولة كلاً من اليابان وألمانيا. ويستند هذا التوقّع إلى عوامل عدّة، من أبرزها النمو السريع الذي يقترب من (10%)، والكثافة السكانية الهائلة، فضلاً عن كون الصين أكبر مصدر للولايات المتحدة، وثاني أكبر دائن لها، مع فائض تجاري لصالحها بلغ تريليون دولار في عام 2024.

منذ بداية الألفية الثالثة، تصاعدت التوتّرات التجارية بين واشنطن وبكين، خاصة مع اتهام الولايات المتحدة الصين باتباع ممارسات تجارية غير عادلة، مثل قرصنة الملكية الفكرية، وإغلاق الأسواق أمام المنتجات الأميركية، والتلاعب بقيمة اليوان. وقد ساهمت هذه السياسات، بحسب واشنطن، في تفاقم العجز التجاري الأميركي.

تسعى الصين لعالم متعدّد الأقطاب تمهيداً لقيادة النظام الدولي مستقبلاً، بينما تتمسّك أميركا بنظام أحادي القطبية تقوده هي

وفي ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى (2017–2021)، وصلت الأزمة إلى ذروتها، إذ فرضت واشنطن في عام 2018 رسوماً جمركية على سلع صينية تتجاوز قيمتها 350 مليار دولار، وردّت الصين بإجراءات مماثلة، ما أدى إلى اندلاع حرب تجارية عالمية أثّرت بشكل واسع على الاقتصاد الدولي.

في بداية ولايته الثانية، فرض الرئيس الأميركي ترامب، بين فبراير/ شباط وإبريل/ نيسان 2025، رسوماً جمركية وصلت إلى (125%) على جميع الواردات الصينية، ما دفع بكين للردّ برسوم مماثلة على منتجات أميركية مثل الفحم، والغاز، والنفط، والمعدات الزراعية، والسيارات، ما يعكس تصاعد حدّة الحرب التجارية بين البلدين.

ورغم مرور أكثر من خمسين عاماً على تطبيع العلاقات بين واشنطن وبكين، إلا أنّ انعدام الثقة السياسية، واعتقاد كلّ طرف بسعي الآخر لتعظيم مكاسبه، زادا من حدّة التنافس والصراع. كما يبرز البُعد الاستراتيجي في هذا الخلاف، إذ تسعى الصين لعالم متعدّد الأقطاب تمهيداً لقيادة النظام الدولي مستقبلاً، بينما تتمسّك أميركا بنظام أحادي القطبية تقوده هي.

وتُبدي واشنطن قلقاً كبيراً من مشروعات الصين الطموحة مثل "صنع في الصين 2025" و"طريق الحرير"، التي تهدف إلى توسيع نفوذها الاقتصادي في آسيا وأوروبا، وهو ما يدفعها إلى اتباع سياسة "الاحتواء الحذر"، لتقييد صعود الصين من دون الانجرار إلى صدام مباشر، مع الحفاظ على هيمنتها الاقتصادية عالمياً.

تدرك الصين أنّ التنسيق مع الولايات المتحدة لم يعد خياراً، بل "ضرورة استراتيجية" تفرضها اعتبارات الواقع وتشابك المصالح

إنّ علاقتهما "المعقّدة" للغاية، والتي يكتنفها التنافس والجدلُ والنفوذ في قضايا السياسية والتجارة، دفعت الخبير الاقتصاديّ الصيني، أوديد شينكار، للتأكيد في كتابه "القرن الصيني عام 2005" أن المشهد الختامي لأزمة التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة هو مشهد "صدامي" اقتصادي وأمني، بحيث تقوم الإدارة الأميركية بفرض الرسوم الجمركية وإجراءات مالية أخرى على الواردات الصينية، بحجة حماية صناعتها، خارج إطار قواعد لعبة منظمة التجارة العالمية، ما يهددّ النظام الاقتصادي العالمي.

ويدعم ذلك ما قاله مستشار الأمن القومي الأسبق، زبغنيو بريجينسكي: "إذا فقدت الولايات المتحدة السيطرة على أوراسيا، فإنّ اللعبة ستنتهي بالنسبة للقوة العظمى الأولى".

ورغم احتدام التنافس واشتداد النزاع بين الصين والولايات المتحدة، يبقى جانب التعاون حاضراً في المشهد، كوجهٍ آخر لا يمكن تجاهله، فواشنطن، بعد إخفاق نهجها التقليدي القائم على التهديد والاحتواء، باتت تسعى لصياغة "لغة حوار جديدة" تتناسب مع تعقيدات العلاقة مع بكين، في المقابل، تدرك الصين أنّ التنسيق مع الولايات المتحدة لم يعد خياراً، بل "ضرورة استراتيجية" تفرضها اعتبارات الواقع وتشابك المصالح.

وفي ضوء ذلك، يمكن القول إنّ العلاقة بين العملاقين تُدار وفق "معادلة مزدوجة" تجمع بين التناقض والتكامل، بين التنافس والتعاون، حيث لا الغلبة للحرب ولا اليد العليا للسلام، بل توازن دقيق بين الضغط والانفتاح. ويبدو أنّ المستقبل سيظل مرتهناً بهذا المشهد المركّب، الذي تتقاطع فيه مصالح القوّتين في عالم يتجه نحو إعادة تشكيل موازين القوة والنفوذ.

ياسر قطيشات
ياسر قطيشات
باحث وخبير ومؤلف في السياسة والعلاقات الدولية والدبلوماسية، من الأردن.