الصراع ثم الصراع

05 يونيو 2025
+ الخط -

تنشطُ نزعة الصراع في معظم العلاقات الاجتماعية في المنطقة العربية، وتسطو أحيانًا على ماهية العلاقة وتستأثر بها وتوجّهها إلى ما لا تُحمد عقباه، بل تنفصل تمامًا عن الحكمة من بنائها. ثمّة تجليات متعدّدة تُحيل على هذا الطرح وتتوزّع على جميع المستويات الفردية والجماعية والخاصة والمهنية في المعاملات، والسلوكات وردّات الفعل. 

بادئ ذي بدء، نتقاسم مع القارئ الكريم مجموعة من التجليات وندعوه إلى التمعّن في القواسم المشتركة بينها، تمهيدًا إلى تدبّر الطرح الذي قدّمناه. ولهذا ننطلق من الأسرة، وفي قلب تجربة الزواج، حيث يسعى كلّ طرف إلى بسط الهيمنة عوض الاحتكام إلى كلّ ما هو تشاركي بنّاء، نحو رؤية موحّدة ترضي جميع الأطراف وتوظّف الطاقات الذهنية والنفسية والمادية والمعنوية لدى الطرفين. بل تتأسّس التجربة على سوء النية والأحكام المُسبقة والخلفيات الذهنية، ويستمر مسلسل بسط السيطرة والشدّ والجذب وجسّ النبض على مدى حياة التجربة. وفي الحوار بين طرفين أو أكثر، يسعى كلّ متحدّث إلى فرض الرأي الشخصي والميل إلى إقناع الآخرين من دون الاكثرات بالنقد أو محاولة فهم الآراء الأخرى، إذ يُعتبر التشكيك في الرأي أو مساءلته ضعفًا وانكسارًا وخضوعًا، ويتم الاستغناء عن الموضوعية مقابل الارتكان إلى الشخصنة والحسابات الضيّقة ليظلّ بذلك النقاش عقيمًا ومن دون جدوى.

حقيقة، عند الاختلاف يكفي التمعّن في نوعية الألفاظ والعبارات المُستعملة وكيفية تغيّر لغة الجسد التي ترصد بجلاء واقع العنف والعدوانية وسطوة الوجدان. عند وقوع خلاف معيّن لسبب ما، نادرًا ما يُقبل أحد الطرفين على مبادرة الاعتذار لتجنّب الإحساس بالضعف والاستصغار والاستضعاف والاحتقار. وفي العمل، تسود فكرة الصراع بين الرئيس والمرؤوس، بل حتى بين زملاء العمل أنفسهم، وتشيع الدسيسة والحقد والإيقاع من أجل تحصيل بعض الامتيازات أو الظفر بالترقية أو حبًّا في تدمير الآخرين، في استجابة تلقائية لثقافة الهدم السائدة والنشيطة بشكل رهيب.

تحوّلت العلاقات الاجتماعية إلى مناسبة لتفريغ الغل والشحنات السلبية والخوف واليأس الذي يستوطن النفوس

وفي الممارسة السياسية، ينسحب التركيز إلى التشويه والتضليل وتبادل الاتهامات بدلًا عن الانكباب على بناء البرامج والرؤى وتقوية المؤسسات، وتظل الممارسة السياسية روتينًا إداريًّا من أجل تصريف الأعمال لا غير. لا غرابة إذن أن يطفو على السطح نماذج الارتزاق والعهر السياسي والفهلوة خدمةً للاستبداد البنيوي والإقطاع بشتى أنواعه. حتى أماكن العبادة لم تسلم ولا تحظى بالوقار اللازم، إذ تطاولها تجليات تفريغ إفرازات الصراع وما تحمله من شحناتٍ سلبية وعدوانية وغل. 

من المؤسف أن نقول إنّه في مجمل تجلّيات العلاقات الاجتماعية يغيب الحبّ والاحترام والتفهّم وتمكين سلطة الحكمة والتعقّل. وتحوّلت بذلك العلاقات الاجتماعية إلى مناسبة لتفريغ الغل والشحنات السلبية والخوف واليأس الذي يستوطن النفوس.

ومن النافل القول إنّ محاولة الكشف عن الأسباب وتتبّع جذور نشأتها صعبة للغاية باعتبار أنّ المجتمع متحرّك باستمرار، خاضع لتأثير خارجي قوي ومستدام، انفصل كليًّا عن مجتمع الفطرة حيث الاستقلالية والوفاء لروح القيم الأصيلة، قولًا وفعلًا. كما أنها بنيوية الشكل تتشابك وتتفاعل في محاور متعدّدة تستعصي معها عملية التفكيك والفرز. ومع ذلك نحاول الاقتراب من جذورها ومقاربة مواقع ولادتها ونموها. 

ثمة افتقار إلى ثقافة التنوّع والاختلاف وضبط النفس والتريث

 نعيش في مجتمع عنيف يميل إلى الاختزال والجزم والتنميط، تغلب عليه ردات الفعل والقرارات الآنية والتسرّع والحمية والاعتزاز بالانتماء القبلي والعقلية التراتبية ويفتقر إلى ثقافة التنوّع والاختلاف وضبط النفس والتريّث. يؤمن باستمرار بنظرية المؤامرة والاستهداف والتواطؤ ويستسلم طواعية لنشاط البنيات الفكرية الجامدة وتعطيل العقل والحسّ النقدي. بالقدر نفسه يئن هذا المجتمع تحت وطأة ثقل نشاط آليات الجهاز الذهني وصعوبة تحقّق التجرّد والموضوعية. نفسيًّا، ثمّة بحث مستمر عن الذات وكيفية تمثّلها، ممّا يفسّر حالة التيهان والضياع والنزوع القوي نحو إبراز الذات والميل نحو النرجسية والاعتداد بالنفس واشتغال عقد النقص والاضطرابات النفسية. ينضاف إلى كلّ ما ذكرناه وقع الانكسارات الفردية أو الجماعية المشينة التي تتبرّأ منها الذات ولا تستطيع تدبير ترسباتها.

ورسميًّا، هناك فشل ذريع في تجربة بناء الإنسان، وربما غياب إرادة حقيقية للاستثمار في المادة الرمادية وتحويلها إلى مصدر إنتاج وإبداع وخلق. 

كيف لتجربة التنمية أن ترى النور في أحضان بيئة سامة تُعدّ مرتع الأنانية والفردانية وسطحية الفهم مع غياب الإدراك الجماعي النشيط والفعال؟

بكلّ تأكيد لن تقوم لها قائمة!

عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
عزيز أشيبان
كاتب مغربي، يعرّف عن نفسه بالقول "نوعية اهتماماتك ومخاوفك تحدّد هويتك".
عزيز أشيبان

مدونات أخرى