الصحراء المغربية.. من إرث الاستعمار إلى أفق الحكم الذاتي
في المغرب
، لا حديث اليوم سوى عن الصحراء وعن الحكم الذاتي لهذه البقعة الجغرافية التي تشكل ما يناهز ثلث مساحة المملكة، وعن انتصار دبلوماسي جديد جنّب البلاد والمنطقة المغاربية العودة إلى الحرب.كلّ من يفهم جيداً خبايا هذا النزاع، يدرك أنّه مُفتعل من قبل الاستعمار الإسباني والفرنسي، اللذين كانا في مرحلة سابقة ينظران إلى المغرب كدولة تقع في الجنوب، ولا يُمكن أن تُقاس قوّتهما إلا بضعفه. فتمّ تقسيم البلاد منذ بداية ما يُسمّى "عهد الحماية"، وتفتيت الأرض الواسعة إلى دويلات، ثم فصل الشعوب بعضها عن البعض الآخر، وغيرها من الأساليب التي كانت أدوات ناجحة لتكريس الضعف والتبعية.
سرديات الاستعمار الكاذبة والحدود الموروثة
التاريخ يثبت أن الاستعمار رسم حدوداً لمستعمراته وفق تصوّرات استشراقية واستعلائية، بل وبرّر دخول جيوشه بمبرّرات تُرسّخ الدونية والاحتقار لشعوب المنطقة المغاربية. وإذا كان الاستعمار الإسباني للصحراء قد بدأ في أوائل القرن العشرين، حين ذكرت مدريد أن سيدي إفني موقع يعود لها منذ زمن الكشوفات في القرن السادس عشر، وسمّته "سانتا كروز دي مار بيكينيا"، فإن فرنسا اجتاحت الصحراء بناء على سردية أنّها خالية من أي بشر أو سلطة حاكمة.
لكن الحقيقة أنّ القبائل الصحراوية كانت تتراسل مع المغرب وتُعلن بيعتها للسلاطين المغاربة، وقد عمد كلا المستعمرين إلى إخفاء ومحو كل أثر للعلاقات بين أهالي الصحراء وسلاطين المغرب.
ثم إنّ أصل النزاع يقوم على جزئية قانونية تتعلق بالحدود بين المغرب والجزائر، فالأخيرة تتعامل مع هذا النزاع من منطلق "الحدود الموروثة عن الاستعمار"، أي تلك التي تركتها فرنسا وإسبانيا بعد تقسيم أراضٍ وبلدانٍ وعائلات وروابط تاريخية. بينما يتعامل المغرب مع الملف من مبدأ تجاوز تلك الحدود الموروثة، وهو طرح يجعل قيام ما يسمى بـ"الجمهورية الصحراوية" أمراً مستحيلاً، لأنها تقوم على سردية استعمارية محضة في أصلها الفكري والسياسي.
النزاع المُفتعل من قبل الاستعمار الإسباني والفرنسي، اللذين كانا ينظران إلى المغرب كدولة تقع بالجنوب، ولا يُمكن أن تُقاس قوّتهما إلا بضعفه. فتمّ تقسيم البلاد وتفتيت الأرض، ثم فصل الشعوب
الجغرافيا تُحتّم عدم جدوى الحرب
اليوم، في ملف الصحراء، لم يكن الانتصار الدبلوماسي الحالي وليد لحظة سياسية تحوّل فيها المغرب إلى بلد فاعل إقليمي له قوة وأدوات تحافظ على وحدته الترابية، بل هو نتاج مسار طويل من التضحيات والدماء التي تخضّبت بها رمال الصحراء حين اشتعلت الحرب بين الإخوة واستمرت خمس عشرة سنة. فالحرب، مهما ربح فيها أي طرف، تبقى خسارةً لأشياء أخرى كثيرة.
وقد طُويت صفحات الحرب مع الزمن، رغم الجروح التي لم تلتئم بعد، لكنها على الأقل لن تتعمق مجدداً، لأنّ عودتها تعني خسائر بشرية وسياسية واقتصادية وجغرافية جسيمة، ليس فقط على المستوى الوطني، بل أيضاً الإقليمي والدولي، وانسداداً في كل آفاق السلام والاستقرار.
ومن الضروري فهم الموقع الجغرافي للصحراء المغربية، فهي بوابة القارة الأفريقية، ومنفذ استراتيجي نحو المحيط الأطلسي، وأي ربط قاري أو عالمي لا بد أن يمر عبرها. وهذا يُشكّل مصدر قوة جغرافية للمغرب، بل وحتى لجبهة البوليساريو لو أنها نجحت في إقامة دولة، غير أنّ هذا المعطى يؤكد في الوقت ذاته استحالة الحرب، ويُرسّخ نظرية الاعتماد المتبادل بين الدول كآلية واقعية لإبعاد شبح الحرب التي ستُكلّف العالم القادم نحو أفريقيا أثماناً باهظة.
الحوار الأخوي والأجوبة الصادقة
في المقابل، لا يعني قرار مجلس الأمن نهاية للملف، فالمجلس الذي فشل في تدبير ملفاتٍ حارقةٍ حول العالم لا يُمكن أن يكون ضامناً لنجاح المغاربة في حسم قضيتهم الوطنية. فالتفاصيل والحيثيات لا يمكن حلّها عبر التدويل، بل عبر الحوار المباشر والجلوس إلى طاولة النقاش.
وبعد الدعوات الملكية المتكررة من الرباط، تتجه الأنظار إلى إمكانية فتح صفحة جديدة مع الجزائر تتجاوز كل المراحل السابقة، وتقفز على التوقعات السياسية، وتُغلق الباب أمام أطماع دولٍ تستغل كل لحظة خصامٍ وتوترٍ لصالحها.
إن المرحلة القادمة تتطلب أجوبةً واضحة عن تساؤلاتٍ جوهرية حول المصير المشترك، بدءاً من الحكم الذاتي ومعانيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكيفية تطبيقه في فضاءٍ تسوده ثقافة سياسية ديمقراطية وممارسة عقلانية، مروراً بقدرة الأطراف الممثلة لأبناء الصحراء على الدخول في مرحلة سياسية فارقة تُنهي عقوداً طويلة من المعاناة والقهر، وتقطع الطريق على "أمراء الحرب" الذين استفادوا من حالةٍ ضبابيةٍ بين "السلم والحرب"، عبر التهريب والاتجار غير المشروع وإعادة بيع المساعدات واحتجاز البشر.
والحديث القادم حول الصحراء، بقدر ما يجب أن يكون حول تنظيم الانتخابات والبدء في العملية الديمقراطية وإشراك كل الفاعلين فيها بكل وعي، يجب أن يكون أيضاً حول مشاريع التنمية والصناعة والصحة والتعليم، وإسقاط الفساد والريع والكثير من الملفات التي تحتاج لجرأة ومسؤولية والتزام بالشعارات المرفوعة عن الازدهار والتطوّر.
إنّ إدراك الحقيقة الموضوعية التي يفرضها الواقع اليوم هو أن مرحلة ما بعد القرار الأممي 2797 لن تكون كما كانت قبله.